في السادس من أكتوبر 1973تمكن الجيش المصري من تحقيق أول وآخر انتصار لدولة عربية على دولة الكيان الصهيوني. خمسة عقود مرّت منذ ذلك اليوم، تمكن فيها الكيان الغاصب من تدجين الأنظمة العربية بشكل شبه تام، وإلى أن أعلن عدد منها، بوضح النهار، تطبيع العلاقة بصفاقة من ينجز انتصاراً تاريخياً حاسماً، ولكم بدت إسرائيل منتفشة بهذا التقدم في الآونة الأخيرة!
على أن ما لم تأخذه إسرائيل بعين الاعتبار هو أن الأنظمة شيء ووجدان الشعوب شيء آخر، وأن الأنظمة الحاكمة كثيراً ما تكون مجرد وجوه مزوّرة ولافتات قسرية مناقضة لواقع الشعوب التي تحكمها، وفوق ذلك أن لفلسطين شعبها الجبار ورجالها الأشاوس.
انتفشت إسرائيل إذن، ثم، في اللحظة التي أخذت ترى فيها، على بعد بنانة فقط من أنفها، نصرها العظيم الناجز، متخيلةً بوضوح تام تهدُّم الأقصى وارتفاع الهيكل المزعوم على أنقاضه، تُفاجأ بفئة قليلة توقد من عزمها الفتي وإيمانها الصميم شعلة الفخر ذاتها للسادس من أكتوبر، بفارق يوم واحد هذه المرة، ودون أن تكون هذه الفئة جيشاً نظامياً لدولة عربية أو جزءاً من جيش نظامي، بل مجرد ذراع عسكري لحركة مقاومة محاصرة.
بإمكانات قليلة، ومن واقع الحصار الغاشم الشامل والممتد لسنوات، تمكّن القسّام من صناعة فجر فارق، فجر غيّر الصيغة التي كانت قد تكرّست للصراع الصهيوني العربي خلال العقود الخمسة الماضية، وها هي الأمة العربية ترفع رأسها اليوم من جديد، نافضة عنها ذل أنظمتها المذعنة.
هل مرّ الأمر دون ثمن؟ هل توقف إلى الآن دفع ثمن النصر الذي تحقق في زمن ساعات خاطفة؟ هل كان القسّام غافلاً عن الضريبة التي سيتعين عليه سدادها؟ لا طبعاً. في غضون أربعة أيام، تجاوز عدد الشهداء في غزة الألف شهيد، وعدد الجرحى الخمسة آلاف جريح، دُمّرت أحياء كاملة من غزة، والحصار الذي أُطبق عليها منذ أكثر من عقد تفاقم الآن حتى ليكاد يحجب عنها حتى الهواء. كل هذا ولا يزال جيش الكيان، مسنوداً بقوة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، يتحدث عن اجتياح بري ومعركة طويلة الأمد.
لماذا إذن أقدم القسّام على هذه العملية التي تبدو، وفقاً لحجم الكلفة المدفوعة والمنتظَرة، باهظة، والتي لا شك أنه كان على الأقل قد خمّنها؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هي أهم درس يمكن أن يأخذه أي كيان مقاوم لقوة غاشمة في أي من بقاع العالم، وهي إجابة بسيطة وواضحة ومقتضبة: هنالك حد لألاعيب السياسة وحسابات موازين القوّة، حد واضح وصارم ويؤدي تجاوزه إلى مغادرة مساحة الذكاء السياسي والدخول في منطقة الخزي والعار والخنوع. هذا الحد بالنسبة للقسّام كان هو التهديد الجدّي المتفاقم للمسجد الأقصى من قبل العدو الغاصب.
أي جدوى ستبقى للقسّام لو تخاذل متذرعاً بمنطق السياسة والإمكانيات، إلى أن يجد المسجد الأقصى مهدّماً أو مستولى عليه بالكامل من الكيان المعتدي الغاصب؟ لا جدوى، ولا إمكانية للعيش بعدها برأس مرفوع. كان لا بد إذن من طوفان الأقصى وليكن ما يكون. في لحظة ما، تغدو المماطلة خيانة وعار مهما أُسبغت عليها المبررات، ويغدو الواجب متركزاً فقط في الأخذ بكل سبب ممكن لتحقيق النصر، ويغدو الإقدام فعلاً جبرياً إذا ما كانت القضية حقيقية والانتماء إليها صادقاً.
بالمقياس نفسه يتعين على كل مقاومة حقيقية وصادقة في هذا العالم أن تصنع طوفانها الخاص صوناً وحمايةً ونصراً لقضيتها الخاصة. هذا هو الدرس الأهم في طوفان الأقصى، والباقي، كما يقولون، مجرد تفاصيل.
اقراء أيضاً
خنجر قحطان
الاعتياد، كارثيّته وجماليّته
الطريق إلى الانفصال