«أمي، لماذا الله اليوم ممزق هكذا؟!»
أثار فضولي هذا السؤال الذي يطرحه الروائي في أول سطر من روايته. أوف.. لو قرأها متزمت لنعت الكاتب بالكافر. لو قرأها مفكر سيتتبع التفاصيل ليربط بينها وبين النبي إبراهيم. لو قرأ شخص عادي الصفحة الأولى من القصة سيتذكر أسئلة طفولته. السطر الأول سيقودك إلى الصفحات التي ناهزت 270 صفحة. الناقد، أو عضو لجنة تحكيم في الجوائز الأدبية، سيهز رأسه: «مدخل القصة مكتوب وفق التقنيات».. سيشجعه المستهل على متابعة القراءة.
كتابة الرواية/ القصة من غير هدى، أمر صعب. تجربتي الأولى كانت في 2011، فشلت في إتمام القصة، تلاها تجربتين لم أنجز أي منهما، أشك بأني أخطأت في مكان ما، لن أتعجل النشر. واحدة من النصائح المهمة التي يكررها الكُتّاب الكبار، الاحتفاظ بالتجارب الأولى للاستفادة منها مستقبلاً، المهم عدم التوقف عن مراقبة التفاصيل الدقيقة وكتابتها.
توقفت عن قراءة الروايات واتجهت إلى قراءة تقنيات الكتابة: أخطاء القصص، لياقات الكاتب، فن الرواية، أركان القصة، فن القصة، والكتب التي يكتبها الروائيون المشهورون في العالم كنوع من التواضع في فضح أسرار الكتابة ونقل الخبرات. يوسا، إيكو، كونديرا، أريد أن أتخلص من النزعة الشكية تجاه قصصي، أريد أن ألتمس الثقة فيما أكتب.
لنتحدث عن الصفحة الأولى.. الفقرة الأولى.. السطر الأول، حسب ما تقوله الكتب.
إذا فشلت بشد القارئ/ الناقد، من الجملة الأولى، ومن أول صفحة، ستفشل ببقية الصفحات. هل تظن أنه لا يوجد كاتب غيرك، ولا قصة غير قصتك حتى يتفرغ القارئ لقراءة عمل صفحاته تتجاوز المائة إذا كانت فقراته الأولى متداعية ولم تترك في وعيه انطباعاً جيداً عن القصة؟!.
كتابة الرواية أو القصة الأدبية، أصعب من كتابة القصة التلفزيونية أو الفيلم. في كتابة القصة الفيلمية، توصل كُتّاب السيناريو وخبراء الأفلام مثل سد فيلد إلى قواعد شبه دقيقة لكتابة السيناريو، وعلى سبيل المثال فقد حول الكاتب الشهير بلاك سنيدر سيناريو القصة إلى أشبه بمعادلات رياضية، إذ حدد خمسة عشرة وقفة مفصلية يجب ملؤها في السيناريو، حدد الوقفات بدقة وأين تكون برقم الصفحة، كأن تُطرح الثيمة في الصفحة الخامسة، والمحفز في الصفحة 12، أي الدقيقة 12.
يهتم سنيدر بمشهد الافتتاح/ لقطة الافتتاح، من الثانية الأولى وقد يمتد إلى الصفحة الرابعة/ الدقيقة الرابعة. مهمة لقطة الافتتاح أن «تُحفر في ذهن المشاهد طوال عرض الفيلم».
لا تختلف مهمة مطلع الفيلم عن مطلع القصة أو الرواية، مهمة السطر الأول أو الفقرة الأولى، أن تبقى في ذهن القارئ طوال قراءة الرواية، وحتى بعدها.
تختلف مقدمات الرواية حسب تصنيفات النقاد، المقدمة الزَّلِقَة التي تبدأ بما يشبه الحكمة، أو الحوارية، أو التقريرية، وغيرها. أياً ما تختاره من مطلع، هناك شبه إجماع على أن الفقرة الأولى لابد أن توحي بالصراع الذي ستدور حوله القصة. ليس بالضرورة أن يكون الصراع صريحاً، ولكن لا بد أن تكون هناك ألفاظ تستثير المشاعر وتوحي بموضوع القصة من السطر الأول.
قد لا يكون مهماً للكاتب معرفة التقنيات، ربما يمتلك موهبة القص سليقةً.. قد ينجح بعمل ويخفق بآخر ليست مهمة التقنيات وضع الكتابة الإبداعية في قوالب، لكن معرفة التقنيات ستخلق للكاتب مبررات تحطيمه لقواعد الكتابة! وعلى كلٍّ فإن الكتابة وفق القواعد هي التي تذهب بالعمل بعيداً بالنسبة لكاتب في بواكير أعماله!.
دعوني أحدثكم عن آخر ثلاثة أعمال روائية، أثارت مشاعري من سطورها الأولى، رواية عالمية، وأخرى عربية، وثالثة يمنية.
*
في 2012، حاولت أن أقرأ أول مرة ليوسا، كنت حريصاً على قراءة ما يقرؤه كبار المثقفين، ولهذا بدأت بقراءة رواية «حفلة التيس». كان العمل ثقيلاً على ذائقتي رغم شهرته، ركنت الرواية قبل أن أصل المنتصف. قرأت رسائل الكاتب البيروفي الشهير إلى روائي شاب، كتاب ممتاز استغنيت به عن بقية أعمال الكاتب.
يوسا خبير بتقنيات الرواية، قرأت مرة عن صالح علماني، على ما أعتقد، قوله بأن ماركيز حكّاء بينما يوسا روائي عظيم. والمعنى أن ماركيز يملك قصة يحكيها بطريقة ساحرة دون إلتزام بالتقنيات، أما يوسا فهو روائي عظيم يبني القصة وفق القواعد، لذا من أراد أن يذهب بعيداً بقصته فليتعلم من يوسا.. وهذا التفسير من رأسي!.
لا بد من عمل ليوسا من ترجمة صالح علماني غير حفلة التيس.
بعد سنوات وقعت عيني على عمل عنوانه: من قتل بالومينو موليرو؟
«يا لأبناء أعظم العاهرات». أول ثلاث كلمات من الرواية، تبدأ بالشتيمة، يا للسفاهة! ما الذي يجعل البطل يشتم؟ لفظة العاهرات في مطلع القصة، قد تستثير مشاعرك كقارئ أو ناقد، قد تحكم على المؤلف/البطل بأنه سفيه، ولكن ذلك سيجعلك تقرأ الفقرات التالية، بعدها ستغفر له، إذا ما عرفت بعد الانتهاء من الصفحة الأولى أن البطل، محقق أمام جثة راعي مشنوق في جبل وقد جرى التمثيل بالجثة. المحقق وزميله يتتبعان الأحداث لمعرفة القاتل والذي سيتضح فيما بعد أنه من الحيتان الكبيرة في الدولة، مسؤول وجَّه بالتخلص من الراعي الذي كان يحب ابنته. أبناء أعظم العاهرات هم من ارتكبوا الجريمة بالراعي النحيل.
هذه الرواية هي النموذج المثالي الذي تشكل في ذهني للأعمال المكتوبة وفق التقنيات بدقة.
كان يوسا الحائز على جائزة نوبل للآداب 2010، خبيراً بتقنيات كتابة الرواية، ولهذا ذهب باسمه بعيداً.
لننتقل إلى مطلع آخر من رواية أخرى لمؤلف عربي..
في 2015، أعلنت الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر، عن فوز شكري المبخوت بالجائزة عن روايته «الطلياني». لا أعرف إذا كان المؤلف نفسه، هو الذي ترجم عن ناديج ديفو كتاب «دليل المؤلف وكاتب السيناريو.. دليل عملي للكتابة» الكتاب الذي ترجمه شكري المبخوت، يركز في جزئه الأكبر على كتابة القصة الفيلمية، السيناريو، وفي أجزاء منه مخصصة للقصة بشكل عام، وكذلك المقالة أيضاً.
مطلع رواية الطلياني مدروس تقنياً، ومكتوب بطريقة تشد القارئ، هذا ما بدا لي، من هذه الرواية التي تبدأ بهذه الجملة:
«لم يفهم أحد من الحاضرين في المقبرة يومها لِمَ تصرف عبدالناصر بذاك الشكل العنيف...». تصرف عنيف في مقبرة. هذا ما تتحدث عنه التقنيات: الصراع في المطلع.. الانطباع عن الشخصية منذ السطر الأول. لا أعرف إلى أين ستذهب الأحداث إذ ما زالت الرواية بين يدي ولم أكملها بعد، على عكس رواية «معراج»، الرواية الثالثة التي أريد أن أتحدث عن مطلعها المفاجئ والتي قرأتها قبل فترة من الآن.
«معراج» هي الرواية اليمنية الوحيدة التي شدتني من مطلعها من الروايات التي صدرت في السنوات الأخيرة، أما لماذا هي الوحيدة، فلأنني لم أتمكن من الحصول على روايات يمنية كثيرة خلال الخمس السنوات الأخيرة، ما قرأته لم يتجاوز عدد أصابع اليد أولاً، وثانياً لأنها الوحيدة التي جعلتني مشدوداً من سطرها الأول، فابتسمت عند إتمام الصفحة الأولى، وقلت في نفسي: رائع رائع.. هذا ما تتحدث عنه قواعد الكتابة الإبداعية ليكون العمل جيداً.
وبالرغم استثقالي للأعمال التي تدور حول مواضيع فلسفية والتي تجعل الأبطال يعيشون بحثاً عن الأجوبة، إلا أن مطلع الرواية أجبرني على السير خلف البطل، لأرى إن كان المؤلف عبدالله شروح سيكمل العمل بنفس الوتيرة الإبداعية التي ظهرت من المستهل/ السطر الأول.
في البدء كانت رغبتي اكتشاف الكاتب الشاب نفسه الذي كنت قد جلست معه كثيراً في مأرب، وسمعته ذات جلسة يستشهد بمقطع من كتاب لإسناد رأيه في نقاش ما، أذكر أني اعترضت على الاجتزاء، فأنا غير ملزم بآراء الآخرين تجاه الله تحديداً، أنا من القرية وكان جدي يؤذن لصلاة الفجر، لا أحتاج للتفلسف حول الإله. تفاجئت أن ما قرأه شروح كان من روايته التي لم أقرأها حتى ذلك الوقت.
بعد أن عدت من مأرب، جاء أحد أقاربي من الجبهة في تعز، كان جنديا في أحد الألوية، ومقاتلاً في الجبهة، وطالباً في جامعة تعز، أول ما سألني: هل التقيت بعبدالله شروح؟ أكدت له أني كنت ألتقيه بصورة شبه يومية في الأسابيع الأخيرة تحديداً، سألته:
ـ من أين تعرفه؟
ـ من الفيس بوك.. قرأت له قصة السروال الطائر، أمانة متعة.
سألت نفسي، جندي في مترس وطالب في الجامعة، بالكاد يحصل على قليل من الوقت ليرتاح، ومع ذلك يقرأ لشروح ما أقرؤه أنا في الفيس بوك، حان الوقت لقراءة الرواية.
فاجئني السطر الأول.. هل يبحث شروح عن الشهرة من خلال الجدال مع المتزمتين؟ هل البطل ملحد؟.
بمجرد إنهاء الصفحة الأولى، عرفت أن الرواية ستذهب بعيداً إن حافظت على المستوى الكتابي ذاته، إلتزاماً بالقواعد أو تحطيمها على علم. ولكن شروح لم يبلغ خبرة يوسا العالم بتقنيات اختبرها بأعماله وقواعد ابتكرها أو توصل إليها من خلال عمله التراكمي في الكتابة التي أوصلته إلى نوبل، كما أن شروح ليس المبخوت، الأكاديمي الدارس لتقنيات القصة التلفزيونية والأدبية والمطلع على تقنيات المدارس الأجنبية الحديثة، والتي فوزت روايته الطلياني بجائزة البوكر 2015.
معراج، هي من بواكير أعمال الكاتب اليمني الشاب، لا أعرف إن كان قد تخرج من كلية الهندسة، جامعة ذمار، أم لا.
أن يكون أول أعمالك بهذا الإبداع، فأنت بلا شك، مدهش..
وجدت نفسي مشدوداً إلى الصفحة الأخيرة، ستذهب الرواية بالكاتب بعيداً، ولولا موضوعها الذي تهرب منه الرواية العربية وإيقاعها، ستذهب أبعد رغم الهنات الفنية التي نسيتها مع القراءة الأولى. فازت الرواية بجائزة السرد اليمني حزاوي سنة2021.
ركزوا على مطالع الروايات الثلاث:
لفظة العاهرات، برواية يوسا، أوحت بالصراع، تلاه جثة راعي نحيل مشوهة، ومحققين في الصفحة الأولى..
ألفاظ "المقبرة، وتصرف عنيف" أوحت بالصراع، في رواية المبخوت..
أما رواية شروح فأوحت لفظة ممزق بذلك، ليجد البطل نفسه في رحلة يبحث عن الله، أصعب من رحلة النبي إبراهيم.
ستقولون أين مطلع رواية شروح.. هو مطلع هذا المقال.
في رواية شروح البطل في الصفحة الأولى يتذكر طفولته، وهو إلى جوار أمه التي لم تجب عن سؤاله، وقد كان يظن أن السحاب المتفرق في السماء هي الله جل في علاه:
«أمي، لماذا الله اليوم ممزق هكذا؟!»
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس