عندما كنت أبحث عن شقة في المدينة، تعبت. هل يتشابه الدلالون بالطباع المراوغة؟ نفضت يدي منهم، يتشابه سماسرة العقارات، الدلالون الذين يغرون الباحث عن مسكن، بشقة أجمل مما يبحث عنها.. كلهم من نفس الطينة.. جاءني اتصال من صديق ينفي ذلك، قال: طلبك موجود.. اتصل دلال طيب وموثوق مائة في المائة..
فرحت..
تأكدنا مرة أخرى من الدلال قبل أن نذهب، أكد:
"معي شقة لوكس"..
جئت من القرية ولا أفهم معنى لوكس.. أنا متشوق لرؤية الدلال الطيب والموثوق، أكثر من الشقة نفسها.
حين التقينا في أحد شوارع المدينة، بدا لي من هيأته طيباً وغريباً، ولا يخلو من الأنس الضاحك..
رجل قصير القامة، في منتصف الثلاثينات تقريباً، سقف رأسه أصلع، أما الجوانب فمغطاة بشعر أغبر وطويل.. لا أرسم صورة كاريكاتورية للرجل، أقسم أن هذا شكله الذي استأنست به أحسن من الآخرين: كان يرتدي ثوباً أزرقاً، يتوسطه عسيب حاشدي طويل عريض لا يتناسب مع حجم الرجل نفسه، بالإضافة إلى كوت طويل فضفاض، بجيبه الخارجي الأيسر قارورة ماء.. وبجيبه الخارجي الأيمن قارورة ماء.. لا أعرف ما بداخل الجيوب الداخلية، كما لا أفتش في نوايا الآخرين..
نظر إلي الدلال بطرف عينيه، وابتسمت له وبالغت كي تتحقق بيننا الثقة، وعربون التعاون.
شقة لوكس.. شقة لوكس.. معي شقة زقرة.. قال. وصعد الدراجة: إلحقوني..
أحدث صاحبي بسرور وأنا على الدراجة: يضع سره بأضعف خلقه.. بس ايش معنى لوكس؟
صاحبي يضحك.. توقفنا بمكان بطرف الشارع بعدما توقف الدلال.. نزلنا على الإسفلت.. يا سلام، على ما بالنفس.. الشقة على الطريق.. قال الرجل: قريب من الطريق.. وبدأ يخطو طريقاً ترابية لا تتسع لرجلين، ولا يمكن أن تمتطيها دراجة بالطبع..
بدأت أتخوف.... كيف سأحمل الماء والطحين. معقول.. لا طريق إلى الشقة اللوكس.
الدلال الطيب قال لي مُرغِّباً: الشقة بمكان هادئ.. يحلم بها الأثرياء.. يحلم بها الرُّكب، انتبه تتكلم مع أحد.. أضاف: الطريق لا تضر.. احمل الأشياء فوق ظهرك، الرياضة مفيدة للركب..
أبديت امتعاضي من رده، فاقترح: بإمكانك أن تحمل الأغراض قليلاً، وتشتري عربية لتحمل ما تبقى.. انتبه تحمل الطحين في العربية من أول الطريق.. ستجد نفسك في أسفل المنحدر.. الطريق ضيق.. البيت قريب.. الشقة قريب..
أخرج القارورة من جيبه الأيسر، وأخذ دفقات ماء.. أخرج سماعة أذن بيضاء من الجيب الداخلي للكوت الفضفاض، وضع السماعة في أذنيه، لم يعد يسمع..
هو يمشي، صاحبي يمشي خلفه، وانا أمشي خلفهم وأتصبب عرقاً..
بس تعبت.. وكلت صاحبي أن يرى الشقة، إن أعجبته ستعجبني.. توقفت بعد أن مشينا أزقة ضيقة تتجه نحو الأعلى.. كانت أنفاسنا اللاهثة تصعد وتهبط.. الدلال يمشي والسماعة بأذنيه.. استدار من جوار المنزل:
هيا وصلنا.. قال بجدية مستاءً من حالنا.. شقة لوكس لوكس.. قال وهو يدخل باب البناية..
فرحت بالوصول.. ولا أعرف كيف زال التعب، تبعته ودخلت بعده.. البناية من طابقين، الشقة اللوكس في الطابق الثاني..
كان المفتاح بجيبه بالفعل، قال لي وهو يفتح دون أن يخلع السماعة من أذنيه: ستعجبك.. كل شيء فيها جديد.. أما السيراميك ايش أقلك.. أصلاً كان صاحب المنزل يجهزها لأسرته شخصياً، قبل أن يسافر.. حتى الحمام... قبل أن يكمل، كان واثقاً، فتح باب الحمام، كان كل شيء فيه مكسراً. أغلقه بسرعة، و قال: باقي واحد ثاني.. لاتهمش..
قادني إلى المجلس، نصف البلاط مخلع.. بسيط، يمكن تغطية الأرضية بمشمع ماليزي، النوافذ؟ كيف نفعل النوافذ المحطمة؟ من حطمها؟..
أول الحرب كانت الاشتباكات هنا. قال، وأضاف بثقة: أغلقهن بكراتين، أو صلحهن.. الشقة لوكس.. والله ما تحصلها ببابل.. هل تعرف بابل؟
صدقته مستمتعاً بالاستعراض ومصدقاً مقترحاته الواثقة لإصلاح كل عيب.. بالمناسبة: لا أعرف بابل؟
قال: بسور الصين العظيم..
أبديت انبهاري بثقافته مجاملةً، كي يساعدني في شروط عقد الإيجار.. هيا بنا نمشي نكتب العقد.. استغرب صاحبي، بدا ذلك من ملامحه الصامتة، أخبرته: أين نذهب.. نستمتع بالشقة اللوكس حتى يفتح الله..
أصر الدلال على استكمال استعراض الشقة ومساحتها، وكنت أطلب منه أن نمشي.. أنا مقتنع بالحاصل.
أصر الرجل: تبقى غرفة النوم.. ما في الشقة إلا غرفة النوم.. المساحة، اتقلب براحتك، اتقلب كأنك في الجنة.. قال.. فتح باب الغرفة..
أول ما رأيت، خراب بوسط أرضية الغرفة، خراب غريب... نظرت للسقف.. ذات المساحة خاربة، الحديد ظاهر بوضوح، وأثار اسمنت جديد يصنع قرشة في الأعلى بينما في باطن الصبة آثار بارود أسود..
ايش هذا؟
قذيفة.. آثار قذيفة مدفعية في غرفة النوم.. "اشنهجع التقلاب في الدنيا، الآن فهمت التقلاب في الجنة"..
أوضح الرجل معترفاً: كانت القذائف تصل هنا بأول الحرب بكثرة.. أما الآن فتصل جنب الشقة أو خلفها أحياناً، "استدرك": إذا حدث قصف، انزل عند جارك في الطابق الأول.. سألني: أو جارك شيقول لا؟
الله المستعان، قلت له، كيف شيقول لا.. زعم إنه مجنون.
عزمت على ألا أعود، استعجلت نزول ذلك المنحدر، عندما وصلنا إلى الدراجة النارية، التفت الدلال تجاه الشقة في الأعلى، وقال هائماً: أوه.. نسينا البلكونة.. أمانة اتخيل نفسك سامر في البلكونة.. تتأمل ظلام المدينة تحتك..
لا أعرف كيف سأتأمل الظلام.. ولكن العرض حلو..سنتشاور وأرد لك خبر..
أخرج الدلال من جيبه الأيمن قارورة الماء وشربها حتى آخر قطرة..
مشيت مع صاحبي بدراجته.. ضحكت.. لحق بنا الرجل بدراجة أخرى، توقفت عن الضحك، قال لي بصوت خفيض خوفاً من آذان المارة:
الشقة لوكس.. الشقة زقرة.. أنا متهني به لك من قلبي..
ما أطيب هذا الدلال.. يغريني بالشقة من قلبه حرصاً علي وكأنه يعرفني منذ زمن.. سخرت، لكنه أكد:
أنت صورتك رضي.. صورتك رضي.. وأنا متهني لك من قلبي..
وظل يلاحقني لمدة شهر تقريباً.. وبعد فترة قررت استئجار الشقة وليكن ما يكون.. اتصل به.. أخبرني: قاجزعه وبالسعودي.. بس شادور لك..
ـ طيب.. بس ما اشتيش لوكس.. دور الحاصل..
اقراء أيضاً
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس
لتنتصر جنوب أفريقيا