قبل أكثر من ستة عقود دك اليمنيون أسوار الإمامة التي ظلت تحكم البلاد لمئات السنين.
الحدث اليمني المهم، كان في سبتمبر 1962، حين وطأت الأقدام الحافية قصور الإمام، واقتحمت الأجساد الناحلة قلاعه، لتعلن التخلص من الديكتاتورية التي تلفعت برداء ديني وبنظرية مذهبية تشرعن السلب والنهب، السجن والقتل، كي لا يرفع اليمني رأسه.
هناك حقيقة تكشفها نقوشات المسند والروايات التاريخية ودراسات الباحثين وأحداث الواقع: اليمني مزاج، بكلمة يمنحك قلبه ويقدم لأجلك روحه إن تطلب ذلك، كما أنه قد يذهب للموت رافع الرأس عند انكسار المزاج، أو نفاد الصبر إثر تراكم الأهوال، غير مكترث بالعواقب ولا مصغٍ للخطابات الموجهة لمشاعره.
في الخمسينيات وعندما تشكلت مجاميع لمواجهة الطاغوت، راح الإمام يلاحقهم كمجرمين مثيري قلق يسيئون لبيت رسول الله. أراد القضاء عليهم قضاءً مبرماً، تكللت الملاحقات بالقبض على عدد منهم، وكان على الإمامة أن تروي غليلها من المقبوض عليهم بطريقةٍ تجعل البقية يستسلمون ويطلبون العفو، كانت الطريقة هكذا: من ظفروا به، فصلوا رأسه عن جسده وعلقوه في الأسواق.
كانت الصدمة أن اليمنيين الغاضبين لم يستسلموا للطاغية، حجة الإساءة لبيت رسول الله فقدت قيمتها، وعليه كان لا بد من حجة خطابية أخرى كي لا يُفتن الشعب بالمشاغبين الذين يقضون مهجعه ويختفون: «نيران المتمردين على شرع الله زادت في الجبال البعيدة».
غير أن التاريخ مليء بالشواهد الدالة على استخدام الحاكم في ذلك الوقت، للدجل والشعوذة، وكل ما ينافي الدين، والقوانين الوضعية، والأخلاق، لأجل حكمه.
سيخرج بكامل أناقته: العِمة البيضاء، القاووق، الطيلسان الأخضر، والمسبت الملفوف على كرشه المتهدل، ينظر إلى اليمنيين على طريقه: أجساد شبه عارية يُحجمها الهزال، عليها رؤوس مغبرة داخلها مثل خارجها كما اقتضت سياسة الحكم وقتذاك: قتامة الجهل الذي حكم به الأئمة على مدى قرون إماماً عن إمام، ومع ذلك فقد أخافوه:«أعينهم تقدح ناراً لا تقل خطراً عن نيران المتمردين في الجبال».
بالتوازي مع ملاحقة الثوار لإخماد نيران الجبال، انتهج الإمام سياسة ذكية لإخماد النيران المشتعلة في أعين اليمنيين، المواطنين، الجهال، الحفاة، الجوعى، نصب نفسه إلهاً وانتشر سدنته في المنابر والأسواق لإخماد النارين، بالتشنيع على الثوار: «إنهم يحاربون الله».
كل ما حدث بعد ذلك، هو أن اليمنيين اختبروا صدق الطاغية، حتى الجاهل، الجائع، الذي يغطي النصف السفلي من جسده فقط، أراد خوض التجربة.
تَكبُّر الظالم وبجاحته في الظلم يبعث الملل في نفسية المظلوم إلى الحد الذي يعجز فيه عن السيطرة على تصرفاته. وإذا كان الموت أرحم من حياة يعيث بها ظالم قاس، فالأجدى امتلاك الشجاعة لمواجهة الملل وليكن الثمن ما يكون.
في سبتمبر 1962، المنتصر سجد شكراً لله، دون أن يعرف ماذا يقول في سجدة الشكر
أما المنهزم، فقد توعد بنزول عقاب الله على البلاد..
لم يحل عقاب الله، وحين رأى اليمني أبنائه وبناته يحملون الألواح والجلود، ويذهبون إلى الكتاتيب لتعلم القراءة والكتابة بكل حرية لأول مرة، قال: «تأخرنا كثيراً»
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس