هذه هي المرة الثانية التي أزور فيها عيادة الطبيب النفسي، كمرافق. أقصد بأن هذه الزيارة الثانية لذات الطبيب، الأولى كانت في شهر رمضان، كنت مستعجلاً ولم أستبين تفاصيل الجالسين في صالة الاستقبال. بعكس هذه المرة، استمعت وناقشت، سألت وأجبت، وضحكت كثيراً لأتناسى أحزان أغسطس.
همس المريض الذي بجواري:
ـ «كل المهشكين رجال»!.
بعد أن تأمل الموجودين الذين ينتظرون دورهم للدخول إلى غرفة الطبيب، تساءل:
ـ «ليش ما يهشكوا غير الرجال لمه مابوش نسوان؟»/ لماذا يجن الرجال، لماذا لا يوجد نساء؟.
كان جلياً أن أغلب الحاضرين يعرفون معنى هشكة وما يُشتق منها. الهشكة هي الحالة النفسية أو الجنون، والمهشك هو الشخص المصاب بتلك الحالة، كان هناك ثلاث نساء في صالة الاستقبال، أشرت للرجل ، أكد:
ـ «هؤلاء ادين عيالهن أو اخوتهن.. كل واحدة تسوق اخوها أو ابنها للعيادة»؟
كان صادقاً وتفاصيله دقيقة، لم يجد إجابة شافية على سؤاله بخصوص غياب النساء عن عيادة الطبيب النفسي، ففسر متهكماً:
ـ «يستحوا يعالجوهن، شكلهم يقفلوا عليهن بالبيوت».
كانت المرأة الكاشفة، والكبيرة بالسن، تتحدث عن ولدها مع المرأة المنتقبة التي تجلس قبالتها وبجوارها شاب أنيق يلوك القات بنهم، الكبيرة جاءت بولدها من قريتها في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي، تبدو ميسورة وأريحية، الحناء على يديها، وفي أصبعين من اصابعها خاتمين كبيرين من الذهب، لم أكن لأنتبه لهذه التفاصيل إذا لم يتحدث عنها الرجل صاحب ملاحظة غياب النساء عن العيادات النفسية. قال فيما معناه أن المرأة تتحدث عن سفرها الشاق وترينا الخواتم كي تدخل الأولى عند الطبيب. في تلك اللحظة سمعت المرأة تقول أنها أول ما عادت من مكة طعمت القات حامضاً، يبدو أنها أرادت أن تؤثر على الشاب حافي القدمين الذي يجلس بجوار المرأة المنتقبة ويلوك القات بنهم عال. الشاب أكد لها مباشرة أنه لم يعد يلوك القات إلا قليلاً: «في الصبح والظهر، والليل أحياناً» كان جاداً في حديثه.
ـ «فوق عافيتي ما أنت مريض.. عندك علاجك» قالت المرأة الكبيرة ضاحكة.
ابتسم الشاب محرجاً، بينما استمرت المرأة بذكر تفاصيل معاناة ابنها: متزوج وعنده ثلاثة أولاد، لا أحد يشبهه بنشاطه، يعمل في الأرض، يزرع ويبادر، يحفر على الشجر، يسقي، يفعل ويفعل ويفعل أحسن من إخوته، كان ابنها الهادئ صامتاً وعلى ملامحه مسحة حزن مؤدبة، قال لها الشاب الذي يلوك القات بسرعة بداهة:
ـ «احنا محسودين، ابنك أصابته عين حاسدة، ما يحتاجش تدخلي عند الدكتور». ابتسمت المرأة الكاشفة، وحاولت إخفاء ابتسامتها بيدها، وامتدت أصبعها السبابة التي غطت فمها تجاه الرجل صاحب ملاحظة غياب النساء عن العيادات النفسية، كان أكثر من ثلثي اصبع المرأة مغطى بخاتم كبير، قال الرجل:
ـ «والله ما تدخل قبلي حتى لو جاءت من بلاد النامس». بينما قالت المنتقبة للكاشفة: «كنت اشتجربي عند شيخ يقرأ عليه القرآن». أكدت الكبيرة أنها عرضت ابنها على مشعوذ وعند شيخ، عندما شعرت بشيء ما يجذب قواها من الخصر إلى القدمين، انتفعت من الشيخ، لكنه حين قرأ على ابنها أكد لها خلوه من العين الحاسدة والنفس المارعة ناصحاً إياها بالذهاب به إلى الطبيب.
نادى مسجل العيادة على المرأة الثالثة، كانت تحمل أدوية داخل كيس كبير، واضح أنها جاءت للمراجعة. من الغرفة المقابلة، نادي الشاب باسم ابن المرأة الكبيرة، سلمها البيانات التحليلية لجهاز يقرأ نشاط الدماغ. أوه لقد أتوا قبلنا، قال الرجل الذي أقسم أنه لن يدعها تدخل قبله، خرجت المرأة التي تحمل كيس الأدوية الكبير، طلبت من المسجل أن يكتب فوق أغلفة الأدوية كلها كما قال الطبيب، لديها من كل باكت أربعة، حاول إفهامها الاكتفاء على الغلاف الذي كتب عليه الدكتور فقط لأن الثلاث البقية مجرد نسخ، سألتها عن هذه الكمية كلها، قالت أن شقيقها يعيش في مناطق الحوثيين، سترسل بالأدوية إلى هناك ليتعاطاها لمدة أربعة أشهر، دون استفسارات ومراجعات، فكلما انتهى العلاج قطعوه:
ـ «الحويثة ماشيسمحوش بهذا الدواء كله، ششلنه بالطريق» قالت المرأة الكبيرة. أردفت: ارسلي من باكت.. استغربنا من المعلومة، مرضى من القرى في مناطق الحوثيين تداووا في المدينة في مناطق الشرعية، وحين عادوا، صادر المسلحون في نقاط المليشيا الأدوية متهمين المرضى بالاتجار بها.
مع الحرب وتفاقم المأساة، تزيد الحاجة للعيادات النفسية، لنتخلص من الوصمة ونشجع الناس للذهاب إلى هناك، لنتعامل مع المرض النفسي كأنه فيروساً معدياً.
في صالة عيادة الطب النفسي، تشريح سيكولوجي لواقع البلاد وواقع الناس، قراءات صادقة من أرواح متعبة، أفكار متقدة من الأذهان التي لا تتوقف عن الركض. فكرت. في الأثناء جاءت امرأة تقود امرأة، وقال الرجل صاحب ملاحظة غياب النساء عن العيادات النفسية:
ـ «لو اللي وقع بنا، وقع بشعوب دول ثانيات، إنهم قانقرضوا».
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس