"التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما، وإقامة حكم جمهوري عادل، وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات"، رغم أنه يأتي كهدف أول في قائمة الأهداف الستة لثورة السادس والعشرين من سبتمبر فإنه أشبه بصياغة شاملة لها جميعاً، ويمكن القول إن الأهداف الخمسة الباقية تأتي فقط كتفصيلات لهذا الهدف الجامع.
فالإمامة، من حيث هي نظام حكم كهنوتي يجرد الناس من كل حقوقهم السياسية؛ ابتداءً بحق اختيار الحاكم، ويحدد وجودهم الاجتماعي كسخرة للحاكم وسلالته، خالعاً للحاكم مزايا الإله بسلطته المطلقة- تضع نفسها كتجلٍّ أقصى للاستبداد، إذ لا تقف في حدود التضييق على الكيان المادي للإنسان، بل تتعدى إلى سحق روحه ومسخ كينونته وتدمير حسه بالكرامة.
هذا النظام الاستبدادي لم يكن له أن يتحقق ويستقر سوى من خلال بنية اجتماعية تتمايز إلى طبقات يتغذى كل منها على الأدنى، وتصب جميعاً في صالح السلالة وشخص الإمام. وقد نجحت الإمامة على مدى فترات حكمها الشاسعة في ترسيخ هذه البنية الاجتماعية المشوهة، بصياغات عرفية أضحت جزءاً من نسيج الثقافة. الأمر الذي جعل التحدي الحقيقي لثورة السادس والعشرين من سبتمبر ليس هو التخلص من شخوص الإمامة، وإنما الجهد الضروري اللاحق والمتمثل بإعادة هندسة البيئة الاجتماعية وفق الفكر الجمهوري القائم على المواطنة المتساوية.
هنا كان الامتحان الحقيقي للسادس والعشرين من سبتمبر: تقويض "مخلفات" الاستبداد الإمامي، وعلى رأسها الحس الطبقي بمقولاته المكرّسة، الجذر الذي تنبت منه الإمامة وتقوم عليه. بعبارة أخرى: إعادة صياغة المجتمع أفقياً على أنقاض بنائه الرأسي الكئيب.
وظلت هذه هي حرب الجمهورية على مدى خمسة عقود: السعي إلى تحقيق المواطنة المتساوية. هذه الحرب المفتوحة بطبعها، والتي تمكنت فيها الجمهورية من أن تصير جزءاً أصيلاً من الوعي الجمعي اليمني، بتحقيق مكاسب كبرى، على رأسها الدستور والأحزاب، وأن صارت الإمامة مع الوقت مجرد لفظ ماضوي مجرّم أخلاقياً.
مع انقلاب المليشيا الحوثية في 2014، كان الجميع يعي أننا إزاء عودة الإمامة، وهو ما ظلت الحوثية تؤكده في كل قول وفعل، على أن هذه العودة الإمامية اصطدمت، وما زالت، برسوخ الجمهورية في الوعي الجمعي كثابت أصيل، ما جعل المليشيا تمضي إلى الآن في محاولة استنساخ نظام الحكم في إيران، بالإبقاء على مسمى الجمهورية كديكور لتغطية الواقع الإمامي، مع الأخذ بالاعتبار إمكانية أن تقوم أيضاً بإقصاء مسمى الجمهورية في فترة قادمة إذا ما تسنى لها ذلك.
بامتداد تاريخنا اليمني، منذ بُلينا بداء الإمامة اللعين قبل قرون، لم يوجه اليمنيون ضربة للإمامة بقدر ثورة السادس والعشرين من سبتمبر. الضربة التي مجرد ذكر اسمها يصيب إمامة اليوم بالذعر، فتمضي في محاولات مختلة للتعامل مع هذا الخطر المحدق، آخر هذه المحاولات تغيير صياغة أهداف الثورة المجيدة في المناهج الدراسية بمناطق سيطرتها.
أمسكت المليشيا الإمامية الهدف السبتمبري الأول الجامع، وحذفت منه لفظ "مخلفاتهما"، والجزء المتعلق بـ"إزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات"، لتفصح بهذا الفعل الغبي كم أنها تتفق معنا في تعريفنا لها؛ بأنها تنظيم عرقي يسعى إلى السيطرة على البلاد، بتقسيم الشعب إلى طبقات، بامتيازات تضمن سيطرتها هي في المحصلة كنظامٍ مستبدٍ هو من ألعن مخلفات الاستعمار.
اقراء أيضاً
خنجر قحطان
الاعتياد، كارثيّته وجماليّته
الطريق إلى الانفصال