"الوطن هو حيث يمكنك تحقيق ذاتك"، لطالما بدا لي هذا تعريفاً لامعاً للوطن. في مراحل ما، يتعب المرء من المقاومة ويبدأ البحث عن تخريجات أخلاقية لفعل التخلي. الحقيقة أن هذا التعريف للوطن لا يمكنني فهمه سوى باعتباره منفذ هروب نفساني لمن أدار ظهره لبلاده ويمم صوب أوطان الآخرين.
"أو لم تكن أرضي واسعة فتهاجروا؟!"، بالطبع في هذا النص القرآني دعوة للهجرة حين يبلغ بنا الجهد مبلغه في واقع سيطرة الطغاة، لكن الأمر هنا لا يتعلق بهروب نهائي وإنما كتكتيك يتغيا تأسيس عودة بهية مستحقة.
المكان الوحيد الذي يمكنك فيه تحقيق ذاتك هو بلادك، أرضك التي أنجبتك, أهلك وأنت تقرأ ملامحك في تفاصيلهم فتحس بينك وإياهم ذلك الرابط المتين، وتحظى كلمة "أهل" بتناغمها الحسي فتشعرك بأنك جزء أصيل من كل أصيل.
أبداً، لن تكون أرض الناس أرضك، ولا أهلها أهلك. حتى لو تمكنت هناك من بناء واقع مادي ممتاز لن يعني هذا أنك حققت ذاتك. ستظل غريباً في أعماقك، مكسوراً ومحني الكبرياء. تحقيق الذات مفهوم أشمل من الأمن الغذائي. أي تحقيق ذات في ظل وجودك في جغرافيا لا ترى فيها ملامحك وملامح أهلك، وأي مجتمع وأية بلاد بوسعها تنسيك أنك فيها محض طارئ صغير؟!
بلادنا قاسية، ما في ذلك شك، لكن التنكر لها يشبه عقوق ولد لأمه لأنها أعملت فيه العصا زمناً. لو يقطع الدنيا كلها سفرا يبحث عن أم بديلة هل سيسعه أن يحصل عليها أبدا؟!
الحل الوحيد إزاء قسوة بلادك هو أن تحارب من يسهم في جعلها قاسية، أن تحاربه إلى أن يلين، أن تقاتل بكل سبيل ممكن كي تعيش حياة لائقة في أرضك، بين أهلك.
ما من بلاد لا تصلح لمعيشة أهلها، وإنما هناك مجاميع تطفو على سطح البلاد بين فترة وأخرى وتجعل من العيش فيها صعبا، حينها تكون الفضيلة كلها والواجب كله والسعادة كلها في إجبار تلك المجاميع على أن تكون جزءا من نسيج الحياة والبناء.
كم كان صادقاً ذاك الذي قال: "عز القبيلي بلاده، ولو تجرع وباها".
اقراء أيضاً
خنجر قحطان
الاعتياد، كارثيّته وجماليّته
الطريق إلى الانفصال