رجل يسمع أم كلثوم ظهراً


سلمان الحميدي

 في أواخر 2013، التقيت بشخص سمعت عنه، وبما أني درست إذاعة وتلفزيون وقادم من حقل الصحافة، راح الرجل يزهو بثقافته ليقود دفة العمل، وكان أهم معيار ذكره ليبدو مثقفاً عميقاً، هو أنه يستمع أغاني أم كلثوم بعد الظهر.
 
انصدمت من هذا المعيار بينما كان يتحدث عن كسر القاعدة المختصة بمواعيد استماع أغاني كوكب الشرق. هو صاحب تجربة ويتفوق عليّ بأشياء كثيرة غير هذه، ولكني آثرت الصمت على أن أخبره بأني أحياناً، وخاصة عندما أكون وحدي، أسمع أغاني أم كلثوم وفيروز ومحمد عبدالوهاب بعد الظهيرة!.
 
لا أقول ذلك الآن لإظهار نفسي أكبر من الرجل الذي تبوأ منصباً رفيعاً فيما بعد، ولا لأطلب منصبًا أرفع منه بذريعة امتلاكي لمؤهل آخر جوار سماع أم كلثوم. أستطيع أن أؤكد مرة أخرى: أسمع أحياناً فيروز ومحمد عبدالوهاب أيضاً بعد الظهر!.
 
ترتبط الثقافة بالإنسانية، وقد ظهر مصطلح المثقفين لأول مرة في قضية إنسانية شهيرة، ملخصها: في العام 1894، حُكم في فرنسا على ضابط اسمه ألفريد دريفوس، بالنفي إلى خارج البلاد بتهمة التجسس لصالح ألمانيا. كانت التهمة باطلة، اتجهت عائلة الضابط إلى الرأي العام واستطاعت جذب اهتمام مجموعة من الكُتّاب الذين أصدروا بياناً سنة 1898، عنوانه: بيان المثقفين. وقفوا مع المتهم وطالبوا بإعادة المحاكمة.
 
في كتابه "المثقفون في الحضارة العربية" يشير الدكتور محمد عابد الجابري أن هذه الحادثة في فرنسا، تعتبر «المرجعية التاريخية، السياسية والفكرية، لمقولة المثقفين» التي «ينصرف معناها في الأعم الأغلب إلى المعنى "القوي"».
 
وعلى ضبابية مفهوم المثقف في الخطاب العربي المعاصر، كما يشير الجابري، إذ هو ـ أي مفهوم المثقف، «لا يشير إلى شيء محدد ولا يحيل إلى نموذج معين ولا يرتبط بمرجعية واضحة في الثقافة العربية الماضية والحاضرة» إلا أن الأمل شبه منعدم لإدخال الاستماع لأم كلثوم بالظهيرة ضمن معايير المثقف، ولا أعرف هل يمكن من خلال سماع أغنية بعد الظهر، التأكد أن هذا السماع يخدم المجموعة الاجتماعية التي يتحتم على المثقف خدمتها، أما السماع لأغنية في الليل يفي بالغرض.
 
فكما يوضح للجابري، وضعية المثقف تُحدد من خلال المجموعة الاجتماعية التي يخدمها، فيكون «مثقفًا تقليدياً» عندما يرتبط بالمجموعات القديمة والطبقات الآيلة إلى الزوال، ويكون «مثقفاً جديداً» ناقداً عندما يساهم في تعبئة المجموعة الاجتماعية الصاعدة وبلورة مطامحها وأهدافها.
 
للفرنسي باسكال بونيفاس، كتاباً يوجد في المكتبة العربية بترجمتين مختلفتين: «مثقفون مغالطون...»و «المثقفون المزيفون»، وفيه يطرح هذا السؤال:
هل يدافع المثقف عن قضية لكي يخدمها أم لكي يستخدمها لتحسين شهرته وشعبيته وحيزه الشخصي؟. إذا كان يستخدمها لتحسين شهرته وشعبيته وحيزه الشخصي فهو من المثقفين المغالطين، المزيفين.
 
لم يشر بونيفاس أبداً إلى كسر قاعدة توقيت سماع الأغاني التي تصلح لليل في الظهيرة، لكنه يشير إلى أن خيانة المثقفين تكون في الصمت وعدم الاكتراث بقضايا المجتمع والحياة الحقيقية.. «المثقفون مطالبون بوضع موهبتهم وشهرتهم في خدمة قضايا أكثر عمومية».
 
ومع أن المؤلف الفرنسي، يتحدث عن الخبراء الذين يظهرون في وسائل الإعلام كمثقفين، قبل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وزيادة أهميتها على هذا النحو، إلا أنه يمكن معرفة المثقف الحقيقي من المزيف أيضاً من المواقف المعلنة والظهور في مواقع التواصل من خلال بعض المؤشرات التي يمكن استخراجها من بين سطور "المثقفون المزيفون"، حاولت تلخيصها ظناً بأن معرفة المثقف المزيف قد تحيلني إلى معايير المثقف الحقيقي وبالتالي يسهل تحديد موقع معيار "الاستماع لأم كلثوم بعد الظهر".
 
من علامات المثقف المزيف:
ـ ممارسة لعبة الأهواء السياسية..
ـ اللجوء إلى حجج مغالطة للدفاع عن القضية التي يتبناها.
ـ لا يتردد في الكذب.
ـ السعي للتلاعب بالرأي العام لأجل مصالح غامضة وشريرة..
ـ استخدام قضية لأجل الشهرة وتحقيق مكاسب شخصية.
ـ الحصول على مكان دائم في الشاشات.. «في مواقع التواصل يسعي ليكون محور حديث مرتادي العالم الافتراضي، أو الكتابة ضمن موجة الجمهور المرتفعة لأجل الظهور لا لأجل الفكرة».
ـ المضي أكثر باتجاه الأفكار المسبقة والرياح السائدة.
ـ تعزيز الأفكار الخاطئة لكي يضمن مكانته في وسائل الإعلام..
ـ تملق تطلعات الجمهور الأخلاقية بالوقوف إلى جانب الخير.
ـ تشويه الوقائع والمواقف بدلاً من المساهمة في تنوير الجمهور.

 ليس من بين صفات المثقف المزيف، الاستماع لأم كلثوم ظهراً، ومن باب الاحتياط أؤكد: أنا أحياناً أسمع فيروز ومحمد عبدالوهاب في الظهيرة!.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر