يروى أن الملكة الشهيرة "ماري انطوانيت"، زوجة الملك الفرنسي ضعيف الشخصية "لويس السادس عشر"، خرجت مرة للصيد مع عدد من الحرّاس والحاشية، وفي الطريق مر الموكب بمواطن مغمى عليه فهرعت الملكة مع رفاقها لنجدته، وكانت هيئته الرثة تخبر بجلاء بأنه قد أغمي عليه من فرط الجوع.
الجميع وعى ذلك عدا الملكة التي خاضت هذا الحوار الشهير الصادم: سألت رفاقها في تأثر حقيقي عمّا يعانيه الرجل، فأجابوها: مغمى عليه. سألتهم لماذا؟! فأجابوا: إنه جائع. سألتهم في حيرة شديدة: ولماذا يتّبع هذا الريجيم القاسي؟! وحين أجابوها في خجل بأن الرجل جائع لأنه لا يمتلك الخبز، سألتهم بحيرة أشد من سابقتها: فلماذا لا يأكل الجاتو؟!
الفيلسوف "روسو" واحد من الذين أوردوا هذه الرواية في كتبهم، ورغم أن المؤرخين ينكرونها فإن حوار الملكة هذا ظل يفرض نفسه كمثال فاجع للحاكم الجاهل بأوضاع شعبه.
قبل أيام، وبعد سنة وأشهر على نقل السلطة إلى المجلس الرئاسي في إعلان تحددت فيه مهمة المجلس بإخراج البلاد من مستنقع الحرب الذي أدخلتها فيه المليشيا الإمامية، -المهمة التي صارت من حينها تبتعد عن التحقق أكثر كل يوم- يخرج علينا رئيس المجلس الرئاسي، رشاد العليمي، بإجراء يليق بحاكم واحدة من أكثر الدول الأوروبية تقدماً ورفاهاً، فكأن رئيسنا أطل من شرفة قصره الرئاسي في العاصمة صنعاء، في نهار صيفي ساطع، فوجد أمامه شعباً يرفل في نعمائه وأفقاً خالياً من المشكلات، ومن أجل التخلص من البطالة القسرية التي تفرضها عليه مثالية الواقع لم يجد أمامه سوى الخروج بهذا الإعلان اللافت: إنشاء منصة إلكترونية تتيح للمواطنين التواصل المباشر معه ليعرضوا عليه مشكلاتهم التي باتت رؤيتها من قبله متعذرة لفرط ما هي صغيرة وميكروسكوبية!
في مثال "ماري انطوانيت"، فإن معرفة المرء سيرتها تجعله يدرك أنها خاضت حوارها ذاك في صدق تام. لقد كانت متعاطفة حقاً مع مواطنها، ونبعت أسألتها واستغرابها من جهل حقيقي بالواقع، فكيف لملكة عاشت طفولتها في القصر الملكي للنمسا ولم تخرج منه إلا إلى القصر الملكي لفرنسا حيث صارت بعد زمن يسير هي الملكة، وبشخصيتها تلك المنذورة للمرح المتهتك وليس للسياسة وشؤون الحكم، كيف لها أن تفهم الفقر وتعرف ما تفعله الفاقة حين تنشب مخالبها وأنيابها في الجسد الإنساني؟
في تصوّرها المرفّه ليس الجوع سوى حالة يسير إليها المرء طوعاً ليتجنب مضار التخمة ويحافظ على امتياز الرشاقة. لا تفهم الجوع إلا في سياقه الجمالي هذا البعيد عن حقيقته لدى مواطنيها المعذّبين بالفقر والعاجزين عن توفير كسرة الخبز.
وإذا كان رشاد العليمي، بإعلانه الغريب هذا عن منصته الإلكترونية الأغرب، يلتقي في هذا الشأن مع الملكة الفرنسية في مفارقته واقع شعبه وامتلاكه الجرأة الصفيقة للتعبير عن هذه المفارقة، فإنه يختلف عنها في انعدام كل سبل التبرير، إذ كيف لرجل أتى من الطبقة المتوسطة لشعبه وشغل طوال حياته المهنية مواقع وظيفية تقتضي المعرفة الدقيقة لواقع الشعب، واحتل منصب الرئيس أخيراً في أشد فترات البلاد التهاباً ومعاناة، كيف له أن يصدر مثل هذا الإعلان السمج، بأنه سيحمل في يده منذ الآن فانوساً يفتش به عن آلام مواطنيه؟!
في جحيم البلاد الكلي والملتهب هذا، كيف لآلام الشعب أن تبدو خفيّة على سيادة الرئيس وللحد الذي يحتاج معه تلمّسها على طريقة الآثاري وهو ينقب عن احتمال ضئيل في غيابات الأرض؟! لم يعد هناك في المجرة كلها من لم تبلغه صرخات أوجاع هذا الشعب الذي يجسد اليوم بمجموع أفراده الصورة الأقسى للعذاب، صورة يفقأ وضوحها عين الشمس.
فهل هو فقط الإمعان في الاستخفاف بحساسية الشعب تجاه هذه التفاهات التي تمارسها عليه النخب؟!. إن كان الأمر كذلك فيجدر بسيادة الرئيس أن يعرف أو أن يتذكر بأن نهاية ماري انطوانيت كانت الإعدام بالمقصلة في ثورة شعبية.
اقراء أيضاً
خنجر قحطان
الاعتياد، كارثيّته وجماليّته
الطريق إلى الانفصال