إضافة إلى هشاشة بنيانها الفكري، فإن الإمامة قدّمت، من حيث هي واقعة تاريخية، أكثر الأمثلة سحقاً لكيان الإنسان، مظهرة بذلك أن الثورة عليها هو مصير يحتّمه الحسّ المباشر، ولو بمنأى عن أي محاكمات فكرية.
على أن هذا الجانب أيضاً، جانب الفكر، بقي حاضراً على الدوام، فعلى مدى ألف ومئتي عام من تاريخنا اليمني، أي منذ حُقن الجسد اليمني بفيروس الإمامة، أسال مفكرون وعلماء وأدباء يمنيون الكثير من الحبر في تفنيد الفكرة الإمامية وتقويض أركانها، الهشة أصلاً.
وإذا كانت سواقي الحبر الدافق هذه قد عانت في أزمنة ما قبل الجمهورية صعوبات هائلة في الوصول إلى صحراء الوعي الشعبي، فإن الجمهورية قد سهلت هذا الوصول وحققته كثيراً، ومنذ السادس والعشرين من سبتمبر أخذت تخضرّ مساحات شاسعة في وعينا الشعبي، مساحات أنارتها شمس الحرية وغرّدت على أغصانها، بلا انقطاع، آلاف البلابل، صدّاحة بلحن نشيدنا الوطني.
وفي معركتنا الوطنية هذه مع المليشيا الحوثية، الدائرة منذ تسع سنوات، فقد قدّم الشعب اليمني من دلائل الوعي بخطر الإمامة، ورفضه لها، ما يستحيل معها التشكيك في وجوده ناهيك عن إنكاره، فحتى في الجغرافيا التي لا تزال بعض الأقلام تصفها إلى الآن ب"الزيدية"، قدّم اليمنيون من بطولات الصد ما يعبر عن وعي جمهوري متجذر وأصيل، وسيكفي أحدنا ليجزم بذلك أن يتأمل البطولة التي قدّمتها قبيلة أرحب مثلاً في صد الزحف الحوثي الهمجي باتجاه العاصمة.
فمع حقيقة أن هذه القبيلة كانت من أكثر القبائل اليمنية مقاومة لفكرة الجمهورية وثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وبالأخذ بعين الاعتبار ظروف التخلي، بل والدعم المخزي الذي قدمته النخبة، بشقيها السياسي والثقافي، للمليشيا الحوثية لتعزيز زحفها لإسقاط العاصمة، فإن المقاومة الباسلة التي جابهت بها قبيلة أرحب هذا الزحف يخبر بوضوح بأن الجمهورية تمكنت في عقودها القليلة من أن تصبح جزءاً أصيلاً من نسيج الوعي الشعبي اليمني، النسيج الذي كان من المتانة بحيث لم تكن لغير الضغائن النخبوية أن تصنع فيه شروخاً هنا وهناك لتعبر المليشيا الإمامية من خلالها إلى غايتها فتسقط العاصمة والبلاد.
ضغائن النخب هي التي مكنت الإمامة من العودة، وليس ضحالة الوعي الشعبي، فقد كان وعي الشعب بجمهوريته حقيقياً وينطوي على أتم الاستعداد للفداء، لولا حقن التخدير التي انهالت بها النخب السياسية والثقافية حينها على الجسد اليمني المتوفز للدفاع، بعملها الدؤوب على تغذية الحس الضغائني البيني، الناتج عن ثلاث سنوات من الثورة الشعبية، ورفعه للمستوى الكافي للتغلب على الحساسية المطلوبة تجاه بوادر الإمامة.
وما زلنا جميعاً نتذكر إلى أي حد انهمكت الكثير من أبواق النخبة الثقافية في تزوير حقيقة الزحف الحوثي، فمن جهة تبرره وتهون من شأنه، ومن جهة أخرى تقدم البطولات الشعبية التي تناثرت بامتداد جغرافيا الشمال ابتداء، تقدمها بثوب التضحيات المهدورة وكأمثلة على الحمق، فجردتها ابتداء من الصيغة الوطنية وسوقتها كنزعات فئوية، تاركة للنخب السياسية تقديم مختلف التسهيلات الواقعية للمليشيا الانقلابية لتقويض تلك الأمثلة البطولية وإظهارها في الأخير كأفعال عبثية خرقاء.
هكذا أحنت نخبتنا البائسة هذه ظهرها، ظهر البلاد، للإمامة لتركب وتصعد لإمساك نسرنا الجمهوري وسجنه في قفصها حتى اللحظة، وطوال سنوات التكبيل هذه لم تصنع نخبتنا سوى المزيد من الانسلاخ عن واقع شعبها ومصالحه، مقدّمة مثالاً تاريخياً معتبراً في الخيانة والفشل، نخبة أغلب شخوصها أقرب إلى "عكفة" وخدم للإمامة وقوى الخارج، فكيف يتوقع منها قيادة الشعب لتحقيق انتصار؟!
لا أقول هنا إن الوعي الشعبي بالجمهورية كامل ومثالي، ولا أنه لا يزال وسيظل بمنأى عن التجريف الإمامي، لكنني لا أظن أحداً ينجز قراءة واقعية لأحداث السنوات التسع الأخيرة، ومقارنة أداء النخب فيها مع الأداء الشعبي، لا أظنه يخرج بغير هذه القناعة: أن الوعي الشعبي كان ولا يزال كافياً لتحقيق هزيمة تاريخية ناجزة للمليشيا الإمامية، وأن ما يبدو أحياناً من انصياع شعبي لا يعزى إلى اضمحلال في الوعي الجمهوري وإنما إلى غياب الوسائل الواقعية للمعركة وضآلتها إن وجدت، ما يجعل النخبة هي المسؤولة كلياً عن تعثر معركتنا الوطنية، النخبة التي لن نقول فقط أنها عجزت عن إنتاج وتنمية الوسائل المطلوبة للمعركة، بل لقد عملت، على العكس مما يفترض بها، وبقصدية مخزية، على تقويض هذه الوسائل حين كانت موجودة، ثم عملت، بوعي وبدونه، وإلى الآن، على ضمان عدم توفيرها.
اقراء أيضاً
خنجر قحطان
الاعتياد، كارثيّته وجماليّته
الطريق إلى الانفصال