ونحن نستعد لاختبارات الثالث الثانوي، كنا ثلاثة طلاب نجتمع من الظهر إلى الليل للمذاكرة والتنكيت وسماع أغاني عبدالغفور الشميري وشيماء الشايب، وإزعاج الآخرين بالدق على هواتفهم عشوائياً.
كنت أنا ووليد وفواز.. كان وليد قد تركنا في الصف الثاني الثانوي، وذهب للدراسة في مدرسة غير مدرستنا.. وعند وصولنا إلى الثالث الثانوي، كنا نجتمع سوياً.
كان بالإمكان إحصاء عدد من يملكون الهواتف النقالة في البلاد بسرعة، كنا نسميه: الهاتف السيار، وأحياناً النقال..
حصل وليد على هاتف سيار، مستعمل، صنعته شركة نوكيا. في تلك الفترة لم نكن نعرف غير نوكيا، بالإضافة إلى سماعنا عن هاتف اسمه "الثريا" ـ ما زلنا نسمع عن قوته حتى اليوم.
حصل وليد، على شريحة أيضاً من أحد أقاربه الذين يسكنون في القرية البعيدة القريبة من المدرسة التي انتقل إليها..
أثناء المذاكرة، كان وقتنا يطول بين الكتب، نغلقها ونفتح أغنية، نرسم قلوب على الصفحات، نلخص على الورق، نضحك، وأحياناً يأتينا بعض الشباب الذين يكبروننا، مثل عاصم شداد والذي كان في تلك الفترة جندياً في صعدة، ما يلبث أن يخرج ويقوم بطرد الذين يشوشون على المذاكرة، وهكذا يمر الوقت حتى يأتي الليل.
وفي الليل، تكون القرية هامدة، نخرج نحن لشم الهواء فوق بركة المسجد، وهو المكان الذي كان فيه الهاتف السيار يلتقط تغطية الشبكة المشغلة لهاتف وليد، وبصعوبة.
كنا نختار أرقاماً بعشوائية، ونتصل عليها، لنتعجب من ردة أفعال الآخرين.
ذات ليلة فكر فواز بالاتصال على أرقام أصحاب البلاد، لنتعجب من ردة أفعالهم، فهم لا يعرفون من هو صاحب الرقم..
مررنا على أرقام أصحاب القرية الذين واكبوا عصر التطور بامتلاك الهواتف ذات الأزرار والنغمات الآسرة، ولكن هواتفهم كانت مغلقة، لأنهم يدخلون الهواتف إلى الداخل أثناء النوم ويبعدون الأجهزة من النوافذ خوفاً عليها من الريح.
الشيخ وحده يعيش في منزل مرتفع، وغرفته في الطابق العلوي، ما يعني أن التغطية ستكون متوفرة في هاتفه السيار.
هيا بنا نلعب مع الشيخ. اقترح فواز تقريباً، أو وليد. لأنهم نرجسيتهم بالإمساك بالهاتف، جعلتني خارج اللعبة، ولم تطاوعني نفسي بالتذلل ليزاحم رأسي رأسيهما المتقاربين من سماعة الهاتف.
تمددت فوق البركة، وجهي إلى السماء، ولم أظهر شعوراً بالتحسس تجاه تصرفهما، ولهذا بقيت أقترح وأنصح وأشير وأضحك وأنا بعيد عليهما.
في المرة الأولى، الشيخ لم يرد..
الثانية، لم يرد..
الثالثة، رد متناوماً..
غيّر فواز صوته وبدأ يتحدث مع الشيخ حول مشكلة ما، اختلقها ويطلب منه أن يحلها.. انقطع الصوت، حاولا الاتصال مرة أخرى، كان الهاتف مغلقاً..
في الليلة التالية، اتصلنا بالشيخ، ورد.. لم يكن وليد يسمح لأحد باللعب بهاتفه، لم يسمح لي أن ألمسه، يطقطق رقم الشيخ كما يقول له فواز، وحين يبدأ الشيخ بالحديث لا يجرؤ وليد على محادثته، فيمد بالهاتف لفواز.. فواز يغير صوته ويختلق مشكلة ويظل يتحدث مع الشيخ.
كان هذا السلوك يتأصل يومياً، يتحول إلى عادة، ونحن، أنا وفواز تحديداً، ندرس شيئاً عن السلوك والمراهقة، في مبادئ علم النفس، لأننا ندرس في القسم الأدبي، حيث المنطق مجاورة للفلسفة، وحيث الفسحة تمتد أمام العقول التي لا تستسيغ معادلات الكيمياء، وتوحيد العناصر، وحسابات الفيزياء.
كنا بحاجة إلى ملخصات المعلم المثالي، كي نقلد أكثر المجتهدين، ونتدرب على حل الأسئلة الوزارية، متى نفعل ذلك، ومن سيذهب إلى المدينة؟
هكذا صارت أيامنا: طوال النهارات نذاكر ونسمع الشميري والشايب، وتعرفنا على فنانين جدد بعد أن كان يمدنا زكريا، الشقيق الأصغر لعاصم، بالأشرطة التي يأخذها سراً من غرفة صهره، بينما كان المنخرطون في أجواء اللعبة لشيئين: شراء الملخصات من المدينة، واللعب مع الشيخ في اتصالات الليل.
ذات ليلة اتصل وليد بالشيخ ومد بالهاتف لفواز، غَيّر فواز صوته ورفع من تكتيك اللعبة، وقال للشيخ بأنه فلان الجماعي، وتحدى الشيخ واستفزه: لو أنت رجال لاقي المديرية.
كان مبنى المديرية على خط المدينة، وكان الشيخ شجاعاً، وحين ذهبت لشراء الملخصات، رأيت صالون الشيخ على الإسفلت، تركه في مكان بارز، ليراه الجميع كي يواجهه المتصل المتحدي، كما حللنا بعد أن عدت.
في الليلة التالية، لا أعرف من الذي حدث الشيخ، فواز أم وليد؟ المهم أنه لم يكن أنا، إذ لم يسمحا لي بالاشتراك معهما باللعب بالهاتف، في تلك الليلة المتصل أراد أن يضحك أكثر من ردة فعل الشيخ، لم يدر ما يفعل، فشتم الشيخ، وكانت هذه الشتيمة سبباً في تفرق الثلاثة.
بطريقة ما، استخرج الشيخ من شركة الاتصالات بيانات صاحب الرقم، وهو من قرية بعيدة عنا، وتقريباً ذهب أحد أولاده إلى تلك القرية وبحثوا عنه، فأبلغهم أنه قطع الرقم لشخص في القرية، فذهبوا إلى ذلك الشخص، أشار لهم أن أعطى الشريحة لشخص ثالث، ذهبوا إليه وكان من أقارب وليد، قال الرجل بأن الهاتف والشريحة مع «أهيلكم.. وليد».
حين عرفنا أنهم عرفوا، احتجب وليد في المنزل، ولا أعرف ما إذا كان والد فواز قد حبسه في إحدى دِيَم وديانه أم أجبره على البقاء في المنزل. بقيت أنا أتجول بحرية لأني خارج اللعبة.. ومن يعش خارج اللعبة يمتلك حريته للأبد..
بعد فترة بدأنا نلتقي خلسة بلا هاتف سيار.. كان فواز ووليد خائفين على مستقبلهما، فالشيخ سيمسكهما عند توزيع أرقام الجلوس، قبل أن يتبين لفواز أن وليد في مدرسة أخرى، ولكن وليد خاف أن يحبسه الشيخ، فالشيخ قريبه، أو أن يلاقيه أولاده فيضربوه، الأخبار التي تصلنا من ديوان الشيخ تُضخم غضبه، أحياناً يبالغ حملة الأخبار أو يختلقوا أشياء عن غضبه للتعجب من ردة فعلنا، ظل هذا الخبر مسيطراً على المجالس لأيام. دور الهاتف في صناعة الشياطين الخطرة، المسخة، الانحراف.
كنت قد دخلت قائمة الممسوخين بعد أن سمح والدي بأخذ هاتفه، وكانت نظرة الذين شاع عندهم خبر شتم الشيخ، ينظرون إليّ بريبة، كما كنا نتوهم عند مصادفتنا للناس في الطرقات.
ووسط هذه الحالة النفسية الصعبة، توسط عاصم شداد لفواز ووليد عند الشيخ، وكم كانت الفرحة كبيرة، عندما عاد حاملاً عفو الشيخ مقابل شرط: لما يكملوا الاختبارات، يحفروا حول الطلح.
وحول الطلح، من أكبر وديان الشيخ.. وأعتقد أن عاصم كان يمزح، للضحك من ردة فعل صاحبي..
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس