من هفواتي في الحياة: الحكم على الشيء/ الشخص، من أول ما أراه أو أسمعه. لا تحكموا على شيء بأنه جيد من أول مصادفتكم به، تحققوا منه ثانية وثالثة ورابعة ثم احكموا، دعوا القيافة والحدس جانباً، لن تكونوا منصفين من اللحظة الأولى. هناك قاعدة عليك أن تعمل بها قبل أن تتكلم: دع الكلام يلف رأسك سبع مرات. لا أعرف لماذا سبع مرات؟ ولكن الجدات نصحن أحفادهن بذلك.
قبل أن أدلف مسجد الحي، أعجبني خطيب الجمعة، كان صديقي الذي سكن في الحي قبلي، نائماً، عرفت أنه لا يذهب إلى المسجد يوم الجمعة، لشعوره برتابة الخطيب، عدت ولمته لأنه لا يذهب إلى المسجد ويُكفر بين الجمعتين، شرحت له انبهاري بالخطبة، نبرة الخطيب المزيجة من رنة السديس وارتجال كشك، الموضوع الذي اختاره وجرأته في الطرح، خطبة من لا يخاف في الله لومة لائم، خطبة قوية توضح حقيقة المليشيا وتنتقد الوضع، هذا ما نحتاجه حقيقةً في زمن الحرب.
وبعد أن سردت مزايا الخطيب وقوة خطبته، حَوّل صديقي عذر غيابه عن المسجد يوم الجمعة، من رتابة الخطيب إلى العذر الصحي أيام كورونا: تجنب الازدحام خوفاً من العدوى.
مع توالي أيام الجُمَع واستماعي لخُطب خطيب الحي، اتضح لي السر خلف نصائح الجدات: بعد المرة السابعة ستكون قد وصلت إلى قناعة متعقلة خالية من سحر اللحظة الأولى. فمن حينها، تعلقت بعذر صاحبي، كنت أنام وأستيقظ بعد الخطبة، الصحة مُقدَّمة على خطبة الجمعة، جوهر الدين تحقيق مصلحة الإنسان؛ ومن ثم أذهب إلى الأسواق بقية أيام الأسبوع.
تلاشى انبهاري بالخطيب حفظت أسلوب إلقائه الجيد، وصرت أتوقع ما سيقوله في خطبته بنبرة مؤثرة: المقدمة نفسها، الدعاء نفسه، وفي الوسط يمين مغلظة ورسائل حارقة خارقة يوجهها للمسؤولين وللعالم استلهاماً من حادثة وقعت خلال الأسبوع وأشغلت الرأي العام، ينسى موضوع الخطبة ويحول رسائل الواتس غير محققة المصادر إلى خطبة لمخاطبة العالم، وكأن العالم مصغ لجامع الحي الذي ضربت منارته رصاصات المليشيا، وعلى جزء من سطحه سقطت قذيفة هاون.
تركت الجمعة، وذات يوم عندما زارتني جدتي من القرية، سمعته، وبكت.. كان بكاء جدتي سبباً لاسئتناف الجُمَع والذهاب إلى المسجد، لم تعد الخطبة تبهرني، صرت أتصيد أخطاء الخطيب، يا للغرابة، يرتكب أخطاء لغوية فادحة في الخطبة، كلنا نخطئ ولكن ليس إلى الحد الذي نرفع فيه الاسم المجرور، الاسم الواقع بعد "من، إلى، عن، على، في" ماذا نقول للصغار المصغيين جوار آبائهم إن انتبهوا؟ الخطيب أيضاً مولعاً بالقلقلة، يقلقل أي حرف بما في ذلك حرف الفاء، وحرف الراء في وسط الكلمة، الخطبة متشعبة وغير متماسكة، ولكن النبرة والإلقاء مزيج من رنة السديس وارتجال كشك..
ما زلت أذهب إلى الجمعة, وصلت إلى قناعة أظنها رائعة: لا ينبغي لنا أن ننقطع عن الذهاب إلى المسجد يوم الجمعة، لأي سبب، علينا أن نذهب، نقرأ سورة الكهف، نشم مشاقر الكبار، الحمحم والريحان، الشذاب والأزاب الملون المعلق خلف آذانهم، نرى زينة الأطفال المبتهجين ونشم روائح العطور المختلطة، ونبتغي الأجر.
نفعل كل ذلك، وإن لم تعجبنا خطبة الجمعة، وإن كنا متوقعين خطبة الخطيب سلفاً.
هناك مساجد أخرى. أعرف. هناك من سيقول ذلك.. وهناك خطباء جيدين أعرف ذلك أيضاً، هذا الخطيب جيد أيضاً حين يتعب ويعد خطبة جيدة، خطبة موضوعها يغطي على كل خطأ، ولكن هذا الخطيب لا يتعب ويعد خطبة جيدة تقريباً، حتى أننا صرنا نتشوق أن نسمعه يقرأ خطبة من كتاب «المسك والعنبر في خطب المنبر».
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس