الأسبوع الماضي التقيت به، جاء من البلاد إلى المدينة ليقطع جواز سفر، ثم رفض العودة إلى البلاد إذ يتملكه شعور الملاحقة والتعذيب من قبل الحوثيين. الحالة النفسية التي يعيشها توضح أنه مسكون بما تعرض له قبل سنوات على أيدي المليشيا.
«موسى منصر» شاب في منتصف الثلاثينات، التحق بالسلك العسكري قبل اندلاع الحرب بعشر سنوات ربما. وهناك شارك بدورات طبية تقيمها الوحدات العسكرية لتأهيل بعض الأفراد بمهارات كالإسعافات الأولية، أو التعرف على عمل بعض الأدوية، هذا ما جعله واحداً من الذين يمسكون الصيدليات الصغيرة الملحقة بالوحدات تلك.
بعد اندلاع الحرب، عاد موسى إلى البلاد معتزلاً الحرب وتداعياتها، ولكن ضيق الحال حتمت عليه أن يشد الرحال إلى أي مكان بحثاً عن عمل، قرر التوجه إلى حضرموت أو المهرة، أو أي بلاد بعيدة ليعمل ويعيل أسرته المكونة من زوجة وثلاثة أبناء، انطلق من الريف الذي يسكنه في شمال تعز سنة 2018، لكنه لم يبتعد كثيراً إذ قامت نقطة مسلحة تابعة لمليشيا الحوثي بإيقاف الحافلة التي كان بداخلها موسى، وقامت بإنزاله برفقة عدد من الركاب، ومن هناك سيبدأ موسى مرحلة جديدة. جديدة ولكنها موجعة.
قام الحوثيون باقتياد موسى إلى غرفة داخل بناية جوار نقطتهم في منطقة ورزان، حيث المناطق الواقعة تحت سيطرة المليشيا، قالوا بأن تلك البناية أو الهنجر، تابعة للأمنيين «القومي والوقائي» الأول جهاز معروف سيء السمعة، سيطرت عليه المليشيا فور اجتياحها للعاصمة صنعاء أواخر 2014، والثاني جهاز استحدثه الحوثيون لملاحقة أتباعهم الفارين من جبهات القتال أو الذين يشكون بأنهم يسببون خللاً في معركة قتالهم مع اليمنيين.
اختفى موسى، لثلاثة أيام، لم يعرف أحد من أقاربه أين هو، فقدوا الاتصال به، أو بالأحرى صادر الجهازين الحوثيَيْن «القومي والوقائي» مستلزمات موسى بما فيها الهاتف، وفي تلك البناية تعرض لصنوف التعذيب المتواصل خلال الأيام الثلاث لإرغامه على اعترافات تشير إلى أنه شخص خطر مناهض لمشروعهم، ويقاتل ضدهم، أو كان متجهاً للحاق للقتال ضدهم. وهناك أعدوا له ملفاً كما يصنعون لكل يمني يريدون أن يغيظوه وليصنعوا منه عبرة للآخرين، وأرسلوه إلى معتقل الصالح وهي مدينة سكنية حولها الحوثيون إلى سجن كبير.
في البداية أوصلوه إلى ما يسمى بـ «سجن العسكرية» وهي بناية في المدينة السكنية المشار إليها، تلك البناية خصصها الحوثيون للأشخاص الذين تختطفهم وهم يحملون بطائق انتساب للجيش اليمني ولم يلتحقوا بالمليشيا وبقيت شكوك جماعة الحوثي تدور حولهم أنهم ذاهبون إلى الجبهات، فتُعَاملهم بقسوة وإن لم يكن لهم علاقة بالوضع العسكري حالياً.
تلقى موسى أشكالاً مختلفة من التعذيب: الربط والتعليق، الركل واللكم، نزع الأظافر، المنع من النوم، تغذية لا تصلح للأوادم، حتى ماء الشرب كان مخلوطاً بكلوركس كما استطاع موسى أن يميز في أول الأمر كما يقول.
بعد تسعة أشهر من المتابعة والتوسط عند متحوثين، وافق الحوثيون على إطلاقه من بناية يسمونها «الإصلاحية» مقابل مبلغ مالي اقترضه أقارب موسى من الناس بعدما خسروا كل شيء وهم يعملون على إطلاقه. وإلى جوار المبلغ طلبوا منه التوقيع على تعهدٍ «يبيح دمه» إن ألقوا عليه القبض ثانية.
خرج موسى وآثار العذاب على جسده، نفسية محطمة، شرود في اليقظة، وتتنازعه الكوابيس عند النوم: الجلاد الحوثي لم يخرج من رأسه، وكأن التعذيب استوطن ذاكرته، واستمر على هذه الحال لمدة ثلاث سنوات، لم تنفعه أدوية الفجائع، ولا الكي بالنار، يغالب نفسه للخروج من الشرود والكوابيس والديون المتراكمة.
في مطلع 2022 قرر أهله دعمه بمشروع صغير: صيدلية صغيرة بالأدوية التي يفهمها ويشتريها من يصاب بالأمراض العابرة سريعاً: الصداع، الاسهال، والسعال، وبعض المضادات، ولصق الجراح، وسط دكان في السوق الصغير القريب من القرية، كان الغرض هو إشغال موسى بشيء يجعله ينسى ما تعرض له، ويخرج من الحالة التي هو فيها، ولكن ما حدث هو العكس.
رف الأدوية بوسط دكان قريب من نقطة استحدثتها المليشيا في السوق، وبالإضافة إلى إتقان الحوثيين بأذية من يريدون، استقوى المتحوثون الرخاص ليؤذوا موسى ويلوحون بأنه مشبوه مزحاً وجداً، ناهيك عن طلباتهم لمبالغ في كل مناسبة وتحت أي مسمى، مبالغ أكثر من تلك التي يبيع فيها موسى.
الحياة لم تعد صالحة للعيش هكذا، قرر موسى أن يرحل إلى خارج البلاد. فوصل إلى المدينة لاستخراج جواز سفر، وإلى الآن يرفض العودة إلى أسرته، مع أنه لا علاقة له بالجيش أو المعركة، لكنه يخشى التعذيب، يتأمل أظافره، ويشرد وكأنه مازال في غرفة ورزان.
هذه نفسية واحد من اليمنيين.. كم نحتاج من الوقت لنعالج نفسياتنا المحطمة؟!
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس