والمذياع جوار مرقدي في القرية، سمعت أبو بكر سالم يغني، كنت في أول ثانوي. بعد أيام ذهبت مع صديقي زكريا إلى المدينة، وصلنا شارع التحرير، إلى صاحب عربية يبيع أشرطة غنائية ومعه بطرف العربية مسجل كبير. أول ما وصلنا إليه طلبنا شريط أبو بكر سالم..
فتح الشريط الأول، ووضعه في المسجل..
لم يكن الشريط الذي أريده..
فتح الشريط الثاني..
ليس هو أيضاً..
ظل يفتح أشرطة أبو بكر سالم ويضعها في المسجل، وأنا أسمع، وأقول ليس هو..
تغيرت ملامحه، تخيل أن صبيان من القرية يعبثان به، ضرب بشريط على الأشرطة المرصوصة، وسألني وهو يسحبني من الكتف:
ايش يقول؟ ايش يقول بالأغنية اللي تشتيها؟
لم أتذكر الأغنية:
يقول يقول يقول الأغنية آه..
كل أشرطة أبو بكر فيها "آه" قال البائع غاضباً، وضع الشريط الأخير في المسجل، أكدت له بصوت مرتعش: أيوه.. هو ذه..
لم يكن الكاسيت هو، ولكن كان فيه أغنيتان بهن "آه"..
ظل زكريا بعدها، أول ما يلتقيني يقول: آه.. ويقهقه من أعماق قلبه. وكنت أضحك..
لم أكن أعرف، أن حلقة "الآه" ستكرر نفسها لتقيدني إلى الحزن مبكراً..
*
كنا في استراحة بمأرب، نتحدث عن الفن والفنانين وعن الموسيقي، كان الصديق عمار النجار مستاءً من "التلوث السمعي" التي تتسبب بها الفرق الغنائية التي تحيي حفلات الأعراس، كلمات رديئة وركيكة لا تتناغم مع العرس، ربما تناقض دلالة العرس تماماً، وضجيج موسيقي يهز المكان، يعتمدون على الإيقاع لبث الحماسة عند الحاضرين ليرقصوا، وأحياناً لا يرقص أحد.. كان العرس في الاستراحة تلك، أما الحديث فكان بعد العرس طبعاً..
في لحظة ما، تذكرت "أحمد راوح"، سألت الحاضرين عن هذا الفنان. ضحكوا. حسبوني أمزح. كنت أتذكر لونًا معينًا من الأغاني القادمة من الوضع الاجتماعي ومشاكله، الأغنية البسيطة التي تعبر عن حال كثير من الناس، التي تخرج من نوافذ المنازل، ومن الطرقات، ومن الأسواق.. الأغاني التي تصلح قصصاً فنقلها أحمد راوح، في بعض الأغاني مع نجيبة عبدالله:
الزوجة المدللة والزوج الكادح والموظف النزيه
الزوج الذي لا يهتم بأسرته وأولاده يهم نفسه فقط، والزوجة المعذبة..
المولعي والمجانين، والإنسان المسمى بـ "الهوشلي".
هذا ما ظهر في أغاني أحمد راوح، كنا نسمعه، لأن أحمد ناجي صاحب الصالون، كان لا يحب فناناً مثله، وفي وقت ما، كنا نشتري شريطه. هذا الذي يعبر عن غالبية الريفيين، وربما اليمنيين في هذا الوقت، ولكنه أكثر تعبيراً عن الريف التعزي، كما أظن..
لا أعرف ما إذا كان الاستماع لأحمد راوح، يخل بالذائقة. لن أقول بأني كنت استمع له في فترة الثانوية فقط. لن أنكر: ما زلت استمع له بعض الأحيان في هذه الفترة؛ ربما نزعة القص.
لا أعلم كيف يعمل المزاج، أحياناً أم كلثوم أو محمد عبدالوهاب، أحياناً وردة، أحياناً أيوب، أو الآنسي... إلخ..
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس