تعرفت على مجموعة من الأصدقاء في مأرب، لم يسبق أن التقينا من قبل، أذهب للسهر معهم، هنا جو من صنعاء المسلوب. في ليلة واحدة، كنا نمثل أكثر من عشر محافظات يمنية. تنوع رائع في اللهجات، في الأعمار، في وجهات النظر. يجمعنا مصير واحد وكلنا نتفق على الحوثي.
ينضم إلينا صديق أيضاً قَدِمَ من مخيم النازحين، لم تسعه القرية التي استحوذت عليها المليشيا، ولم يجد مكانا أليق للعيش مع أسرته غير مأرب، لهذه المجموعة سنوات هنا، منذ الحرب. لذا؛ بدا وأن ما يتحقق حواليهم شيئا عادياً، عندما يتحدثون، يتحدثون عن أشياء كبيرة ذات صلة بهيئة الترفيه وتحسين الأمزجة، حدائق، متنزهات، دوّارات، مسابح، وأشياء من هذه التي لم أدخلها من قبل، في ذروة النقاش سألوني عن رأيي، ولا رأي لي.
ـ أنا ما زلت مبهورا بحركة الحياة.. أنتم مجانين..
لا رأي لي بالفعل وقتها، أحياناً من الضرورة أن تدلي بمشاركة إذا ما طُلب منك في جلسة ليل: نحن نلوك القات حتى مطلع الفجر، من المفترض أننا نشعر بالدين لمأرب، للمقاتلين الذين يجعلوننا نفكر هكذا، على الأقل ليكتب كل واحد منا منشوراً يحيي فيه الأبطال، أو ينتقد فيه مليشيا الحوثي!.. ما أجمل البحث عن مباهج الحياة والتصفيق لها، علينا ألا ننسى محاذير الموت وجماعتها. لا بد أن الناس يشعرون بالغبطة، مادام أن هناك من يهتم بالحياة العامة وأن مظاهرها ملموسة بالفعل.
بقيت أتردد على الأصدقاء، وهم مجموعة من الوجوه البارزة والمثقفة والناشطة والشابة، نلوك القات إلى الفجر، ونتناقش بأفكار تهم العالم، من الإلحاد إلى الإيمان، ومن الحرية إلى الرق، من الرواية إلى هجائيات جرير والفرزدق، من التعامل مع النصوص مباشرة إلى مقاصدها، وسرد المواقف الضاحكة في القرى والمدن..
إذا لم تكن هذه الحياة، فما هي إذن؟
بعد الفجر، يذهب بعض الاصدقاء إلى الملعب الرياضي، يتبارون، قبل الانصراف إلى النوم.. وهكذا تشمل الحياة مختلف الجوانب، تنظيراً وفعلاً، وأكثرنا من المنظِّرين..
مع ارتيادي للاستراحة في الليالي الأُوَل، وعودتي الساعة الثانية في منتصف الليل، سمعت ضجة في الشارع، تقدمت بوجل، وحين رأيت العمال اكتفيت بحك رأسي والمشي من جوارهم، كانوا عمالاً يقطّعون الشارع لإصلاح بعض الاختلالات، أو يوزعون أحجار الرصف..
قرب الغروب، يشرع العمال بغسل أشجار الزينة، فموجات الغبار تأتي كل حين، وبعد الفجر، يشرع العمال بقص أشجار الكازورينا بأشكال فنية تحسينا للمدينة..
الحركة لا تتوقف، وآمال اليمنيين في مأرب تتعاظم..
يتحدث الناس حول إنشاء حدائق ومتنزهات، ضرورة التخطيط للبُنى الترفيهية الكبيرة والشروع في إيجادها، وبناء الأكاديميات الرياضية والاستثمار في تعشيب ملاعب، ودوّارات ومسابح وغيرها، لأن مأرب نموذج، ووجهة وجد فيها اليمني كل مقومات الحياة بعد أن تقطعت به السبل، وعجزت معظم المناطق من تقديم صورة ملائمة تجعل من اليمني يحلم بأكثر من أن يبقى حياً.
الحلم بالأفضل دليل جيد على تدفق الحياة وامتلائها بتطلعات المؤملين، إذ لم يكتف بعض الأصدقاء بما تشهده مأرب من تطور وإنجاز كبيرين، يحلمون بواقع أكثر مثالية من هذا الذي يعاش، وهذه الأحلام المشروعة، ما كانت لتكون لو لم تكن هناك ثقة بالسلطة المحلية ومؤسسات الدولة التي تأسست في مأرب..
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس