في الوقت الذي كنا لازلنا نلملم أحزاننا بوفاة الفقيد الدكتور عبدالوهاب محمود عبدالحميد - بل وقبل مواراة جسده الثرى- تفاجأنا بوفاة الفقيد الراحل محسن أحمد العيني - رحمهما الله - ليظل يرحل كبار القادة والساسة النبلاء ممن ظلوا متمسكين بسيادة الوطن وممن دافعوا عن استقلاله وكرامته يوماً بعد يوم
فمنذ بداية اهتمامي بقراءة تاريخ الثورة اليمنية (ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة) ظللتُ أجد إسم محسن أحمد العيني في معظم تلك الكتب التي قرأتها وبمختلف توجهات مؤلفيها السياسية والفكرية، ومعظمها تشيد بنضال ووطنية وتفاني هذه الشخصية الإستثنائية بما فيها المختلفة عن توجهاته السياسية والفكرية ..
لقد كان أول وزير لخارجية الجمهورية (العربية اليمنية) وشغل منصب رئيس الوزراء غير مرة .. وكلما اختلف مع بعض قيادات الثورة أو اختلفوا معه .. يغادر منصبه بكل هدوء وراحة بال .. ثم .. سرعان ما يُستدعى لأداء دوره لوطنه مرة ثانية وثالثة .. ويستجيب لذلك من أجل الوطن والثورة أو هكذا يفهم أمثالي .. وربما المرة الوحيدة التي رفض إقالة نفسه من منصب رئيس الوزراء إلا بشروطه هو .. هي التي كانت عام 1975م لمعرفته المسبقة أن رغبة إزاحته من منصبه جاءت من خارج وطنه ؟!! وكان له ما أراد !
ورغم المناصب السياسية والديبلوماسية التي شغلها الفقيد محسن أحمد العيني، إلا أنه ظل هو نفسه، كونه كان ممن يزينون المناصب وليس العكس ؟!
وحينما تعين عام 1997م نائباً لرئيس مجلس الشورى .. فرغم المحبة والود والتقارب الثقافي والسياسي والذهني بينه وبين الفقيد الشهيد عبدالعزيز عبدالغني - رحمهما الله- والذي كان حينها رئيساً لمجلس الشورى - إلا أن العيني رغم ذلك فضل تقديم استقالته من منصبه ذاك ..مفضلاً العودة إلى القراءة والمشاركة في بعض الندوات الثقافية والفكرية ..على مستوى الوطن العربي بوجه عام بما في ذلك مشاركته وعضويته الفاعلة بـ(منتدى الفكر العربي).
في بداية 1990م وقبل إعادة وحدة الوطن اليمني بأشهر قليلة .. تلقيتُ دعوة للمشاركة في (برنامج الزائر الدولي) بالولايات المتحدة الأمريكية .. وحينما اجتمعنا نحن المشاركون ببهو الفندق وسط العاصمة الأمريكية واشنطن، وكان عددنا ثلاثة عشر مشاركاً من جنسيات مختلفة ..
عرفت حينها أن اثنين من المشاركين إسرائيليان - فظللتُ في حيرة من استمرار المشاركة من عدمها رغم وجود مشارك عربي آخر بنفس المجموعة وهو الأخ القدير مسعود الفهيد - من أبناء الكويت الشقيقة والذي نصحنا بالمشاركة كون البرنامج حافل بزيارة بعض أهم الوزارات والمؤسسات الأمريكية ولقاء ومناقشة شخصيات أمريكية مهمة وفاعلة، خاصة وأن البرنامج كان بعنوان ( صناعة القرار في السياسة الخارجية للولايات المتحدة) وهي الفرصة التي لم تتاح لي أثناء فترة دراستي الإعلامية بالولايات المتحدة نفسها !!
وفضلتُ إشعار سفير اليمن بواشنطن وطلب رأيه في المشاركة من عدمها .. وكان الأستاذ الفقيد / محسن أحمد العيني هو السفير حينها .. فذهبتُ إلى عنوان السفارة والتي كانت تشغل شقة بعمارة (واترغيت) الشهيرة !
وقابلته -رحمه الله- حيث استقبلنا بكل ود وأريحية , وربما هي المرة الأولى التي أقابله بها وجهاً لوجه .. حيث ظللنا نتناقش بمجمل القضايا الوطنية - خاصة ما يخص المغتربين اليمنيين هناك ودور السفارة تجاههم !
وحينما ألح عليّ في تناول طعام العشاء .. أخرجتُ جدول برنامج الزيارة .. فاعتذرت له بحجة زحمة البرنامج .. ثم شرحتُ له عدم رغبتي بالمشاركة بسبب وجود اثنين مشاركين إسرائيليين وطلبتُ رأيه ؟! وتفاجأت به مستغرباً من موقفي, ثم اطلع على عناوين الزيارة وأسماء المحاضرين ومكانهم ومكانتهم .. ليتضاعف استغرابه .. مصراً عليّ بالمشاركة, وبعدم التفكير بعدمها.
مضيفاً بصعوبة بل استحالة زيارة مثل هذه المؤسسات وسماع ومناقشة لمثل تلك الشخصيات السياسية والديبلوماسية والفكرية - الأمريكية- والتي اطلع عليها في البرنامج الذي أخذته معي عند زيارتي له - فشاركتُ حينها بكل رغبة .. مناقشة وتوافقاً وتفنيداً واستفساراً و.. و.. الخ - بما في ذلك مناقشة ذلك الإسرائيلي وتلك الإسرائيلية واسمها(تامر) والتي أصرت أن جدتها لأمها يمنية من (صعدة !) وكنا كلما يحتدم النقاش بيننا تردّ علي وبلهجة ركيكة ربما هي كل ما حفظته من جدتها : ( لك سرع يسرعك ههههه) - قالت ذلك بالسين وليس بالصاد !
لقد استفدتُ من تلك الزيارة فعلاً .. وبصورة غير متوقعة .. وهو ما قد كتبته عنها بثلاث أو أربع حلقات ببعض الصحف اليمنية بعد عودتي إلى الوطن !! واستحضار إسم سفير اليمن الأسبق بواشنطن حينها الفقيد الراحل/ محسن أحمد العيني - سبب ذكر زيارتي تلك !!
مع بداية هذا القرن الميلادي الجديد .. حصلتُ على كتاب (خمسون عاماً في الرمال المتحركة) بعد أن ظللتُ أقرأ عنه بين راضٍ عما جاء فيه وهم الكثر .. وبين ساخط منه وهم الأقل !! فتصفحت هذا الكتاب ثم قرأته بكل تمعن - وهو الكتاب الذي ألفه الفقيد العيني -رحمه الله- والذي بقدر ماهو بمثابة سيرة ذاتية لشخصه ولأدواره السياسية والوطنية .. بقدر ماهو أيضاً بمثابة سرد تاريخي موجز للثورة اليمنية وما مرت به من منعطفات وتآمرات وإيجابيات وسلبيات .. حتى ولو في الكتاب بعض أوجه التباين وهي قليلة .. فإن ما جاء فيه من إنصاف خاصة لبعض الشخصيات الوطنية بعيداً عن (المناطقية) وتضخيم الذات .. كما ظهر ذلك ببعض المؤلفات المماثلة !! تشفع لصاحبها أية تجاوزات أخرى وهي كما أكرر وبحسب فهمي الخاص قليلة !!
وبجانب المعلومات الثرية في الكتاب فإن ما يميزه أيضاً طريقة السرد والأسلوب الأدبي الشيق وغزارة المعلومات والوضوح والجرأة في الطرح ..
ثم تابعت لقاءاته في برنامج (شاهد على العصر) بقناة (الجزيرة) .. وما تخلل ذلك من توافق وتباين حيال ما طرح !
أثناء تواجدي بالقاهرة .. ظللتُ أتواصل مع الزميل القدير/ محمد الخامري الذي كان ولا يزال في بلجيكا .. وفي شهر يناير من العام المنصرم 2020م قلت للعزيز محمد . أرغب بزيارة الشخصية السياسية الأستاذ / محسن العيني ولكن لا أرقامه ولا عناوينه عندي .. فرحب بذلك وتواصل مع زوجته (عزيزة عبدالله أبو لحوم - أم هيثم) شقيقة الشيخ سنان أبو لحوم - والتي تزوجها محسن العيني وهي أمية -كما أكد لي ذلك بنفسه عند زيارتي له - لتتعلم بعد زواجها ولتصل بمستواها العلمي والثقافي إلى قيامها بتأليف عدة روايات .. أولاها (أحلام ونبيلة) والتي صدرت بالقاهرة عام 1977م .
كما ساهمت في إنشاء (جمعية المرأة اليمنية) في السبعينيات ولعبت دوراً رئيسياً في تعليم المرأة اليمنية وحقوقها .. بل شاركت أيضاً في (المجلس النسائي) ومقره في الولايات المتحدة الأمريكية .. وكل ذلك بعد زواجها.. حيث درست وتعلمت بينما كانت قبل ذلك أمية .. وهو ما يؤكد الفرادة والاستثناء اللتين تميز بهما الفقيد محسن العيني عما عداه -رحمه الله-
وحينما تواصل الزميل محمد الخامري معها لتحديد موعد لي - كانت تحسب أن هدفي من زيارة الفقيد العيني هو إجراء لقاء صحفي معه - لتعتذر له - لأن زوجها لم يعد يرغب بأية لقاءات صحفية ولا إعلامية -حسب ما أخبرني بذلك العزيز محمد- ليؤكد لها ما أكدته له - أن محبتي وتقديري للفقيد ولأدواره الوطنية وموقفه الشخصي معي بواشنطن بداية عام 1990م كما أشرت لذلك آنفاً .. وغير ذلك مما تستدعيه الزيارة لأمثاله هي وراء رغبتي يزيارته . فتحدد موعد الزيارة والفضل لله ثم للعزيز محمد الخامري .. وذهبنا الولد محمد وأنا لزيارته في مقر سكنه ( مدينة أكتوبر) ووجدناه مهيأ لاستقبالنا بكامل هندامه -يرحمه الله- وظللنا نتناقش ببعض القضايا اليمنية خاصة الأوضاع الحالية وموقفه الشخصي منها!.
إضافة إلى مجمل القضايا العربية والدولية .. ولقرابة ثلاثة ساعات دون ملل منه ولا تذمر - خاصة بعد ما كنتُ أطرح عليه من استفسارات عديدة بما فيها بعض ما جاء في كتابه (خمسون عاماً في الرمال المتحركه) ..وبقدر مفاجآتي بحيويته ونشاطه بل واستمراره في تدخين (السيجار) بقدر مفاجأتي أكثر من مدى قوة ذاكرته وسرده للأحداث التاريخية ولغيرها وبصورة يعجز الوصف عن وصفها - خاصة وهو قريب التسعين من العمر !!
وحين قرأت عن وفاته يوم الأمس الأحد - رحمه الله- تفاجأتُ ببعض منشورات "النعي" التي وصفت وفاته بأنه جاء (بعد صراع طويل مع المرض عانى منه الفقيد) وهو عكس ما شاهدته عياناً قبل عام وبضعة أشهر, إلا إذا كان ذلك حدث خلال فترة ما بعد لقائي به -رحمه الله- مع أن الموت يأتي للصحيح والعليل وعند أجل كل فرد .. وفي أي وقت وعلى أي حال ..
" ولم أرَ حكماً كالمقادير نافذاً
ولا كلقاءِ الموت من بينها حتما "
ورغم أن (العيني) كان وظلّ وطنياً .. بل وجمهورياً بعرضه وجوهره .. إلا أن ذلك لم يمنعه من مد يديه للسلام بسبب ظروف صعبة مر بها الوطن آنذاك .. وربما دون أن يدرك بعض النتائج السلبية التي صاحبت ذلك السلام والتي منها دخول بعض من باتوا (جمهوريين) ظاهرياً فيه !! ليظلوا ينخرون بجسد اليمن وليكون من نتائج ذلك الوصول إلى انقلاب 21 سبتمبر 2014م المشؤوم وما بات يعاني منه الوطن كل الوطن اليوم من ويلات ومحن !!
إلا أن ذلك لا ينفي أن "العيني" خدم وطنه بصورة يصعب بل يستحيل نكران دوره .. مع أن البعض خاصة من معاصريه قد لا يتذكرون ما قام به هو وأمثاله لأجلهم بقدر تذكرهم بما لا يقدر على القيام به .. وربما لفهمه هذا فقد ظل يخدم وطنه بما كان يراه صالحاً وصحيحاً .. وليترك البعض يفهم بما قد يرغب بفهمه , والإنسان أي إنسان مهما كان صادقاً بأقواله وأفعاله فإنه لا بد ان يجد من يكذبه, ومهما كانت تصرفاته يراها سليمة فإنه لا بد وأن يجد من يراها سيئة ! فـ (إرضاء الناس غاية لا تدرك) وهذا هو ما ينطبق على الفقيد العيني - والتاريخ لا بد أن ينصفه وأمثاله - رحمه الله-
وعشمي بالعزيزين هيثم وطارق ووالدتهما في تتبع الكثير مما له صلة بالفقيد ونشر مالم يرغب بنشره بحياته - ربما لراحة باله وربما لظروف قدرها بحياته- فمن أمثاله لا بد من وجود المزيد مما لم يأتِ ذكره في كتابه ولا في بعض لقاءاته ومحاضراته ومناقشاته, وذلك خدمة للوطن والأمة.
فرحم الله الفقيد الذي كان بحق (شاهداً على العصر) بكل ما ومن فيه، وعزائي لزوجته ولأبنائه ولنا جميعاً ثم لوطنه الذي بات اليوم يفتقر لأمثاله عرضاً وجوهراً.
اقراء أيضاً
مأرب.. العَصِيَّة على الاِنكسَار!
مقارنة جزئية وعاجلة.. بين حكم العثمانيين وحكم الأئمة لليمن