منذ يومين تتردد أخبار عن تحرك الجبهات في تعز، غير أن كل ما ينشر يظل مجرد تحركات محدودة ومناوشات عابرة، لا تعكس وجود أي خطة عسكرية شاملة، ولا قرار نهائي بإنهاء الوضع القائم والدفع بالمعركة لاستكمال تحرير المدينة. والحال هذا هو لغز مفتوح منذ سنوات وبلا إجابة مقنعة..!!
تكاد مشكلة تعز أن تكون إحدى ألغاز الحكاية اليمنية الكبيرة؛ عقدة غامضة وبلا أي تفسير مقبول لوضعها. فمنذ انتهاء معارك التحرير الأولى، طوال السنة الأولى والثانية للحرب، دخلت الجبهات طور السكون، وسرى على المدينة وضعًا شبيها بالعطالة الجارية في بقية الجبهات..!
الحيرة في تعز، ليس لأن وضعها في الحرب مفارق للوضع العام في بقية الجبهات؛ بل لكونها تنطوي على عوامل ذاتية وموضوعية، كان يمكنها أن تستثمرها لصناعة مصير مختلف عن الوضع العام للحرب المعطلة في بقية المدن.. لكن هذه العوامل المختلفة، بخصوص تعز، ظلت مجرد صفات نظرية غير فاعلة في الواقع.
إذا ما جئنا للمبرر المكرر والشائع حول سبب جمود معركة تعز، حيث قرار تجميد المعارك في بقية جبهات القتال ضد الحوثي، ذو صلة بممانعة عليا من قبل التحالف، كما يتكرر دوما؛ فالأمر لم يكن ساريا على تعز بنفس الصورة، فقد ظلت تعز تتمتع بنوع من التمرد المنضبط والصامت على وصاية التحالف، وبما يمنحها هامش حركة أكبر لإنجاز ما تبقى من المعركة العالقة؛ لكنها لم تفعل.
وبعيدا عن كل المبررات الأخرى، التي يمكن أن يسوقها المرء لتفسير جمود المعارك في تعز منذ سنوات؛ من قبيل محدودية القوة والارتباكات الداخلية وغيرها؛ إلا أن كل ذلك ليس مبررا كافيا لبقاء المدينة عالقة في وضع كهذا، وليس ثمة من شرح للمشكلة، سوى عدم وجود رغبة ذاتية لدى القيادة العسكرية والسياسية المحلية في تعز، لانجاز المهمة. وعدم وجود الرغبة والإرادة هنا لا يُعزى لموانع خارجية ولا لعجز ذاتي، بل لحسابات داخلية صرفة.
وأما ماهية الحسابات الداخلية التي تدفع قيادة تعز السياسية والعسكرية للإبقاء على الوضع كما هو عليه، فالأمر متعلق بعدم الاستعداد للتضحية بما لديهم من مخزون القوة والذخيرة، لجانب التحفظ من خوض المعركة بشكل فردي، وبما يصدِّر صورة لخصومهم توحي بقوتهم، وهو أمر مثير لمخاوف مستقبلية- كما يتصور القائمون على المعركة في المدينة.
إلا أن كل تلك المخاوف، مهما كانت منطقية، فهي لا تنفي سلبية الموقف، سياسيا وعسكريا. فالسياسة الحذرة، بقدر ما تمنع عنك الخسارة؛ لكنها تحرمك من الربح أيضًا. وكما يقال: ما لم تكن مستعدا لدفع الضريبة، فلن تكون مؤهلا للربح. فالوضع المتجمد في تعز كشف منذ سنوات عن نخبة سياسية وعسكرية تفتقد للحيوية، وقبلها للرؤية الحاسمة والفاعلة في مجرى الصراع.
الإصلاح في تعز، يتصرف بذهنية متوجسة، تدفعة للكمون، والتريث، وفقدان القدرة على الفعل والمبادرة. والحديث هنا عن الإصلاح، ليس بصفته حاكم للمدينة، بل كقوة فاعلة ومؤثرة وبمقدوره التحشيد للمعركة لو أراد ذلك؛ لكنه يتحرك محكوم بمخاوفه، وهذه أجواء معطلة للفعل وسالبة للقدرة على اتخاذ القرار..!
تخيلوا معي؛ لو أن الوضع في تعز بصورة معاكسة، بحيث يسيطر الحوثي على المدينة وتسيطر الشرعية على مداخلها؛ هل كان الحوثي سيتردد عن حشد القوة لاستكمال سيطرته، وفتح المنافذ، وتطبيع الحياة فيها، وبما يصب في صالحه شعبيًا وعسكريا واقتصاديًا..؟! بالطبع لا.
ومن هذا الافتراض، يمكن استنتاج فكرة أخرى، هي: أن القوى الفاعلة في تعز، مكبلة بقيود ذاتية قبل كل شيء؛ تفتقد لروح المغامرة، على الرغم من امتلاكها كل المبررات المنطقية والأخلاقية للفعل. بل وبمعيار الربح والخسارة، فخسارتها في بقاء الوضع معلق، أكبر من أي خسارة فيما لو حسمت المعركة.
حيث يمكن لتطبيع الوضع في المدينة أن يرفع من إيراداتها، ويعزز من الارتياح الشعبي للسلطة المحلية، ويمنح القوى الفاعلة حضورا وتأثيرا أكبر، وبما يرمم شرعيتها المشوشة..؛ وكل هذه مكاسب مادية ومعنوية أكبر من أي خسارة يمكن دفعها لاستكمال تحرير المدينة.
أخيرًا: بعد تجمد معارك التحرير في تعز، وبروز حالة من الصراعات الداخلية بين قوى الشرعية في المدينة، وبالرغم من أنها قد حسمت واستتب الوضع، إلا أن آثار ذلك سياسيا وشعبيا، انعكست على المعركة، وبما دفع القوى الفاعلة في المدينة لاستدامة الوضع كما هو عليه. فعملية التحرير تحتاج لاستعادة الروح الجماعية الأولى، شعبيا وعسكريا، وهو ما تفتقده المدينة الآن. إذ لا يمكن أن تحدث تعبئة عامة للجيش، والمقاومة، والمجتمع، في وضع منقسم إجتماعيا وسياسيا. على أن هذا كله، ابتداء، كان نتيجة لتجمد المعركة وليس سبب لها.
كان يمكن للشرعية، والإصلاح بالتحديد، أن يحولوا تعز الى قاعدة مركزية، سياسية وعسكرية، تحرس قلعة الشرعية، وتمنحها عامل قوة، وتثبت وجودها شمالا؛ إلا أنهم تصرفوا بطريقة مرتبكة، وحولوها من ورقة قوة محتملة وفاعلة، الى بؤرة استنزاف، ونموذج معطل ضاعف من هشاشة الشرعية وحرمها من رافعة سياسية مهمة.
على أن الوضع لم يفت عنهم تماما، وما يزال بإمكانهم استغلال المعركة الحاصلة في مأرب، للدفع بمعركة تعز وحسمها، ولو في اللحظة الحرجة. لكن لا يوجد ما يوحي بذلك، ويبدو أن الوضع الخامل للمدينة سيظل ساريًا لزمن بعيد، ربما انتظارا لأي تسوية قادمة، ما دام الخيار العسكري لم يعد مطروحا ولا يوجد تحفز داخلي لتفعيله..!!
اقراء أيضاً
"غزة" كرافعة أخلاقية للعدالة
في السلم والحرب.. طباع الحوثي واحدة
عن التعبئة الشعبية لمعركة الجمهورية