استُشهد حمزة بن خالي، أقول بن خالي لصلتي الكبيرة به وصداقتي العميقة معه، هو أركان حرب اللواء 145 التابع لمحور تعز، وعندما يرى الناس فخامة المنصب يشعرون بالعظمة، أما حمزة فلم أستطع مناداته بالفندم، أناديه حمزة، ولأن الحرب قطعت الطريق بيننا ولم نلتق غير بعد ست سنوات، فقد تغافل هو عن اسم الدلال الذي أطلقه عليّ في بيت جدي: سلوم.
حمزة نفسه لم يكن يأبه للقب الفندم، نحن في حالة حرب، على القائد أن يفهم نفسية الأفراد سمعته يقول، كان يستغرب من أولئك المتبجحين الذين يجازون الجنود لأنهم نادوهم بأسمائهم دون الإشارة لفخامة الوصف: الفندم!.
التقينا قبل أشهر، وجلسنا سويا معظم الوقت، كان يداوم في كتيبته التي أسسها من الصفر، كان محفوفا بحب الأفراد وإشادة القيادات، أكثر الناس انضباطا وحرصاً على تمثيل الدولة بشكل مؤسسي وإن حمّل نفسه الدين الثقيل. في اليوم التالي الذي وصلت به إلى المدينة كان يشتري رشاشا للكتيبة، لم يكن في المالية ما يكفي لشراء الرشاش، سمعته يتصل بأمه، يطلب منها "سلفة"، لم يقل لها بأنه سيشتري عتادا للدفاع عن المدينة، قال لها بأنه اشترى شيئا وينقصه المال. في اليوم الذي يليه تقريباً، كان الأفراد الذين سيذهبون للقتال بلا مصروف على الأقل لشراء وجبة طعام، يتصل حمزة بزوجته، يطلب منها: اعطي الخاتم لأحمد "ابنه" ولينتظر في أسفل البيت، سيمر أحدهم ويذهب للصائغ ليبيع الخاتم.
ذكر لي أحد المطلعين على بدايات المقاومة، بداية تشكيل الجيش، وبعد بداية تأسيس حمزة للكتيبة، كانت الجبهات تطلب تعزيزا عاجلاً لصد هجوم، يتقدم حمزة أفراده ويجرون مترجلين، يتبعه الأفراد على أقدامهم، لم يكن لهم وسيلة نقل في البداية، ثم ما لبث أن ذهب إلى الشرقية، عزز في جبل هان، وثبت في الشمالية، وعند تشكيل أي حملة أمنية يطلبون طقماً من كتيبته.
كان حمزة بن خالي يرى بأنه لا بد للمواطنين أن يلتمسوا حضور الدولة، لا بد أن يستشعروا أن لديهم مؤسسة تدافع عنهم، وهذا لن يكون إلا بوجود منظم على الأرض، لهذا كان حمزة يهتم بتوحيد أفراده بالبزة العسكرية المفصلة بالمقاس، والتحلي بالأخلاق العالية في أي مكان يحلون فيه، في الجبهة، أو في الشارع، أو في الثكنة التي ينطلقون منها.
كان يعيش مع كل فرد، كل مقاتل يؤكد أنه قريب من قلب حمزة وأن حمزة يعيش في قلبه، لم يكن حس حمزة عند تكوين ثروة مالية وبناء منزل مثلاً، نحن في حرب، إذا استشعر الفرد إخلاص قائده سيكون الصف قوياً، كان بإمكانه تحقيق ثروة بالتغطية على أفراد، بتغييب أفراد، بل وبمصادرة حق بعض الحاضرين، لا.. لا. حمزة يجلس قرب لجنة صرف الرواتب، فلان كان غائبا لن نصرف له تقول اللجنة فيراجع حمزة عنه: ولكن هذا الفلان سجل موقفا عندما هجمنا في جبل هان، مازالت الشظايا منغرسة في فخذه، فلان سيأتي إذا طلبناه.
عندما يمرض أحد أقارب فرد ما من أفراده، يواسيه حمزة بمصاريف الدواء، يضرب على صدره: لا تهم.. والله لنعالجها بالخارج..
عندما يفرح أحد الجنود، يجابره حمزة باسم الكتيبة.
لم يتوقف حمزة عند أفراد كتيبته المرقمين فحسب، لحمزة مشروع، ومشروعه تحرير تعز. القائد الحقيقي يحتوي أي شخص يريد أن يعمل معه من أجل المشروع الكبير، ولهذا كان هناك عدد كبير ضمن كتيبة حمزة لم يحصلوا على الأرقام العسكرية بعد، يمنحهم حمزة المصروف اليومي، وعندما تصرف المنطقة العسكرية الرواتب، يصرف حمزة لأولئك الأفراد غير المرقمين رواتب شبيهة من ردّيات الكتيبة التي كان من الممكن أن يعطفها لجيبه كما يفعل كثيرون..
ولم يتوقف احتواء حمزة عند الأفراد غير المرقمين، هناك أشخاص من كتائب أخرى لم يحبوا العمل مع قادتهم وأحبوا العمل مع حمزة، غير أن قادتهم رفضوا تسليم رواتبهم فتكفل حمزة بصرف ما يماثلها من مالية الكتيبة، وبالعكس: لحمزة كشف بأسماء أفراد كتيبته الذين يعملون مع آخرين، يتابعهم، من يداوم في الجبهة يستلم راتبه كاملاً مادمنا كلنا نعمل من أجل وطن.
هناك جرحى رواتبهم تصرف عبر الكريمي، ومع ذلك داسوا على جراحهم ويقاتلون مع حمزة.
قبل فترة وجيزة، طلبت منه الاتصال مع قيادي في أحد الألوية لصرف راتب جندي مسكين، لم يُرِد حمزة الاتصال بذلك الرجل، لم يقل بأنه سيء، قال بأن الجندي رجل ومنضبط، والقيادي قد نحتاجه في موقف ما، على الجندي أن يداوم معي وسنوفيه راتبه، عندما قال حمزة هذا المقترح، قال أحد الحاضرين: وهل نترك القيادي يأكل مال الجندي؟ رد حمزة بالمبدأ الذي يعمل به: كنز الرجال ولا كنز المال.. تعز تحتاج لمن يقدر الرجال ويبدد من أجلهم كل كنز!.
***
خلف حمزة رجال، أفراده يتلقون الإشادات في كل مهمة، اتصال من القيادات الفلانية إلى حمزة يشيدون بانتشار أفراده ودقة أدائهم للمهمات الموكلة إليهم، يقول حمزة مازحاً: ياربه الشكر، متهكماً من إهمال الرجال.
قيادات الجبهات يطلبون تعزيزاً عاجلاً، قبل شهر تقريباً ـ على سبيل المثال ـ كان هناك طلبا لتعزيز إلى الجبهة الشمالية، وبعدما تعددت الخيارات، غضب القائد: اشتي من أفراد حمزة شداد.
كان حمزة يُلقي المحاضرات الداخلية لأفراده بلباقة، يحذرهم عند كل تعزيز: لا تأخذوا رصاص أصحاب المواقع الأصلية، أنا أنزلكم بجعبكم، لا تعودوا دون أن يعرفوا، وكانوا يعملون بالنصائح وسرعان ما صارت لهم تعاليم حتى إذا لم يوجد حمزة.
كان بعض القيادات يشتكون من قيام بعض المعززين باستلام الرصاص ثم مغادرة الجبهة!.
***
كان حمزة مهتما بمشروع التحرير
وكان مهتما بضرورة تمثيل هذا المشروع بصورة أخلاقية، إما بأخلاق منتسبي الكتيبة أمام بقية الفصائل والتشكيلات العسكرية، أو بأخلاقهم أمام المواطنين، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال الماديات.
عندما كان قائدا للمنطقة الأمنية في المعافر، كان يُطلب من قوات المنطقة الإشراف على حكم أو إيقاف اعتداء حتى يتم الفصل فيه، يخرج أطقم، أنتم تمثلون الدولة، إياكم أن تعتدوا على مواطن، أو تأخذوا المال من أي طرف، كان يقول لهم أن من يفعل ذلك سيفقد احترامه لنفسه وسيشعر أن أي شخص يمكن أن يشتريه، شكّ بأحد المساعدين، فعاقبه، سألته: لم استغنيت عن عمله وأعدته إلى الثكنة، أجاب: احنا جازعين، احنا نربي قادة، اشتوه يتعلم..
كان يتألم من الأفعال التي يقوم بها بعض المنتسبين للجيش الوطني، فيشوهون سمعة الجيش كله، قال لي أحد المساعدين أن الفندم حمزة أعطاهم رُزماً نقدية فئة 200، ووجههم لتوزيعها على الأطفال في الشوارع والأزقة أيام عيد الفطر المبارك، كوسيلة بسيطة لعكس صورة طيبة عن الجيش في قلوب الآخرين.
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس