اجتمع عقال بلاد البستان "بني مطر" في عهد الأمام "يحيى حميد الدين" على تحديد مهور النساء بمبالغ معقولة، وقعوا على ذلك القرار وحضروا باتفاقهم إلى صنعاء، ليعرضوه على القاضي "محمد بن اسماعيل الردمي" الذي هنأهم على ما اتفقوا عليه ووقع عليه.
كان ذلك قبل أن يطلبوا منه الذهاب إلى الأمام يحيى لتعميد اتفاقهم، وضبط من يخالفه، الأمر الذي نهرهم عليه القاضي الردمي ومزق ورق الإتفاق وهو يهتف: "يا مغفلون، ألا يكفي أنكم ربطتم له الرجال، فهل تريدون ربط النساء له؟!"..
لا احد يولد ديكتاتور، أو طاغية. ربما تؤهل تربية شخص ما على إيجاد تربة خصبة تُسّرِّع من انضاجه، إلا أن جودة الصناعة تعتمد بالاساس على المجتمع الذي يمنحه الفرصة الكاملة لممارسة طغيانه!..
قاوم الأمام يحيى الغزو العثماني في اليمن مقاومة شرسة إلا أنه لم يكن وحيداً، ولم تكن قوته منفردة لتحدث فرقاً دون إجماع القبائل اليمنية على وجوب التخلص من الغزاة، قبل أن ينتهز فرصة ضعف العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى ويتحالف معهم ليتسلم منهم حكم اليمن دون الرجوع إلى رفاق السلاح، مستغلاً متلازمة خلافاتهم الدائمة.
طالما سار الديكتاتور وفق سردية متشابة؛ طموح سياسي لفرد قد لا يحمل المواصفات الملائمة، يتمكن من القفز على السلطة وقد ارتدى عباءة آيديولوجيا شعبويّة مستفيدا من حال الفوضى والتذمّر المجتمعيّة ليطيح تالياً- عن طريق العنف الدموي- بكل المنافسين المحتملين.
كان الأمام قد انتهى من تلك الخطوات قبل ان يبقي الجميع دائماً تحت مراقبته اللصيقة، دون أن يتوقف يوماً عن امداد المجتمع بكافة مقومات بقائة وطغيانه، عقائدياً، فكرياً، اجتماعياً، اقتصادياً، وسياسياً!..
كانت أرض اليمن قد هُيّئت فعلياً، وعبر اضطهاد مئات السنوات، لسيطرة الفكر الزيدي في مناطق الشمال، بالإضافة إلى مهادنة الفكر الشافعي له في الوسط، لانتاج بيئة خصبة وجدت أن المنطق يحتم عليها حكم الأمامة. حتى وصل الأمر إلى محاربة المعارضين للإمام عبر المجتمع نفسه قبل أن تقع المواجهة الفعلية بينهم وبين الإمام، فالإمام ابن الرب، الذي لا تسقط الأمطار ولا يعم الخير إلا لاجله!..
جاهد الأمام يحيى، كمن سبقه من الائمة، للابقاء على اليمني وفق مستوى معرفي متدني أو معدوم، فقد كان الجهل وإسدال ستار حديدي على اليمن، بالإضافة الى التمسك بميراث عقائدي عقيم، هو الوسيلة الانجع للتحكم بمجتمع لا يستطيع أن يقارن بين نسبة وفياته العالية وبين دول مجاورة!..
كان امتلاك الراديو جريمة لا تغتفر في عهد الأمام يحيى، بعد ان سبقه اسلافه باخفاء التراث اليمني من المكتبات. ولما استأذنه القاضي الإرياني رد في محاولة لاستمالة الرجل: "لا مانع أن تشتروا راديو، فأنتم ممن لا يلهو بسماع الملاهي"..
إلا أن ذلك لا يبرئ المجتمع الذي استسلم ورفض إعمال عقله في مسلمات فطرت عليها النفس البشرية قبل أن تقرر الإنقياد للقطيع.
تماهى المجتمع اليمني مع الطغيان الاجتماعي الذي مارسته الإمامة. فبعد أن أُعتبر زواج غير الهاشمي من الهاشمية "زنا"، يقام الحد على مرتكبها، كان المجتمع قد كرس لعرف عدم قبول زواج اليمني "القبيلي" من طبقة يرى أنها أقل منه مقاماً، مخالفاً بشكل لا لبس فيه اخلاقيات دين يفاخر باخلاقياته وبانتسابه إليها..
مجتمع لا ضير من تبادل الظلم بين افراده، لا بد وان يكون مناخا ملائما للدكتاتورية!..
ولتكتمل الدائرة على المجتمع اليمني، اطلق الإمام زبانيته على المواطن باصدار قانون "الصبرة"، الذي يُلزم المزارع بدفع الزكاة بمقدار ثابت سنويا، بحيث يتم اختيار أفضل عام للمحصول من الأعوام السابقة ويتم تثبيت الزكاة على نفس المقدار، حتى ولو لم يزرع، ولو لم يحصد، المزارع شيئ فهو ملزم بدفع المقدار!..
واستسلم المجتمع، ليس عن ضعف أو عدم تمييز للظلم والطغيان، فالمجتمعات غالباً لا تتحرك حتى تتقدمها "نخبة منتقاة بمواصفات معينة لها رؤية واضحة واهداف لا تحيد فلا يستميلها الإثراء على حساب قضايا الشعب"
اليوم يعيد التاريخ نفسه ولكن هذه المرة كمهزلة، وليس كمأساة كما كان في اول الامر. أن تكون النخب المعول عليها أسوأ من الميليشيا، فلن تنتهي المهزلة الا بمأساة مروعة.
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني