لا تكاد تمضي بعض الوقت مع "وينستون سميث"، بطل رواية "١٩٨٤" للكاتب "جورج اورويل" حتى تشعر بغرابته، كيف لملامح شخص أن تتبدل وتناقض ما يشعر به لهذه الدرجة؟!.
"لعله يعاني من وعكة ما؟!"، تقول قبل أن يشير خلسة نحو شاشات المراقبة وكاميرات التصنت التي بدأت ترصدك وتحلل صوتك أنت الآخر. لن تجد شارع أو زقاق في مقاطعة "إيرستربب"- بريطانيا سابقاً- خالياً من أجهزة التنصت، لدرجة أن يمسي اختلائك في غرفة نومك خطراً داهماً، كيف لك أن تتحكم بهفوات لسانك أثناء خوضك حلم ما أو كابوس؟!..
"لم كل هذا الحرص؟!" لا تكاد تلقي السؤال حتى تجد صفحات الرواية تكممك، فقد ساقك حظك التعيس إلى معاصرة دولة سرى عليها نظام الحزب الواحد، والرأي المنفرد بنفسه منذ خمسين عام!..
"وكأن واقعك لا يكفي كتجربة!"، تزفر قبل أن تتابع خطوات "وينستون سميث" وقد انتقلت إليك عدوى التوتر والقلق!..
دخل الرجل شقته بعد افلاته من دوريات شرطة الفكر، وأخذ يدور في انحائها باحثاً عن زاوية لا تلتقطها الشاشات، حتى حشر نفسه في موضع ظنه آمن وأخراج دفتر صغير التقطه من أحد محلات الخرداوات!..
من الجيد أن لا أطفال له، وإلا تسابقوا للوشاية به!..
أكاد اجزم أن نهاية البطل لن تكون سعيدة، ليس لهواية الكُتّاب قتل ابطالهم، يد في ذلك. "سميث" من سيودي بنفسه بعد تماديه واخراجه للقلم. لقد جن الرجل تماماً، مثل هذه الخطيئة لن تمر في دولة "أوسينيا" وإن اقتصر تدوينه المرتعش على مقادير "خبز القمح"، الوجبة الحقيقية الوحيدة في شقته!..
لا تدرك مدى تهور المرء، حتى يعتقد نفسه منفرداً!.
كان "سميث" يعمل محرراً مسئولاً في "وزارة الحقيقة"، المعنية بمراجعة التاريخ وتصحيحه حتى تتوائم كل الروايات والمنشورات والصحف، قديمة كانت أم حديثة، مع رؤية الاخ الأكبر، رئيس الحزب وقائده وملهمه، والمتجبر عليه، فلا حقيقة إلا ما يتفوه بها ولا صوت إلا صوته!.
لا يقتصر عمل الوزارة على ذلك، تميزت عن غيرها بقدرتها على محو إنسان وتاريخه بمجرد قرار، ما أن يصدره الأخ الأكبر حتى يتم ازاحة تعيس الحظ من كافة الوثائق والسجلات، وإن صدف والتقيت به في الشارع يجب عليك تكذيب ما ترى!..
"اثنان زائد اثنان تساوي خمسة!" إذا قرر الأخ الأكبر ذلك!.
"هل ينزلق واقعنا إلى تطبيق نظام الأخ الأكبر، أم أنك أمام مصادفات لن تلبث حتى تزول؟!"، تتسائل بحيرة أمام "دقائق الكراهية" التي فُرضت على كافة العاملين في الحزب، والمفضلة "لسميث"، طالما كان الصراخ والهتافات المدوية مفيدة لإخراج ما يعتمل في صدره من حيرة وكراهية، لعل متنوري الحزب أدركوا مسبقاً خفايا النفس البشرية وعبء ما تحمل، فاستقطعوا الكثير من الوقت لحرية ممارسة الصراخ!..
لا تمضي لحظات منذ جلوس "سايم" على طاولة الطعام المشتركة حتى توافق "سميث" باحتمالية القاء القبض على صديقه، لا يرجع ذلك لشخصيته السمجة، أو لمشاعر مقت تجاه الحزب وقوانينه الصارمة. يحمل الرجل من الولاء ما يتفوق به على بطلنا، إلا أن الأنظمة الشمولية تحتفظ بالاذكياء بقدر حاجتها اليهم. وعلى الأغلب سيتم التخلص من "سايم" لحظة انتهائه من العمل على مشروع اللغة الجديدة، التي لن تحمل شرك ترادف المفردات وفخ المقارنة بين معانيها!..
"لن يعد الفكر جريمة بعد أن نضيق من آفاقه ونعدم الفرق بين "الجيد والأكثر جودة والممتاز"، يقول "سايم" لتزداد ثقتك في وجوب التخلص منه!.
مازال "سميث" يقسم وقته بين عمله وبين كتابة مذكرات- لا يعي ما يدون فيها غير عبارات ترجو اسقاط الأخ الأكبر- وبين جولات بحثه عن الماضي الذي لم يصدق- كخبير في التزوير- سلامة ما كُتب عنه، حتى لاحظ مراقبة "الفتاة" له وملاحقتها!..
هل كانت تتبعه؟!، لا بّد وأنها من شرطة الفكر، أي حُمق جعله يظن امكانية إخفاء أمر مذكراته؟! أخذت الهواجس تتلاعب به وهو يبحث عن وسيلة لقتل "جوليا" حتى احتالت هي على كاميرات المراقبة ودست ورقة في يده!..
كان الأخ الكبير وقادة الحزب قد سمحوا بتبادل مشاعر الحب والزواج بين "العامة"- الكائنات الاقرب للبهائم- كوسيلة للالهاء، إلا أنهم قاموا بتحريمه بين أعضاء الحزب، لا أحد يدري ما الذي قد تفعله العاطفة حين يتجاوز ولاء الازواج لبعضهم البعض، الولاء المفروض للحزب وللأخ الأكبر، مثل ذلك التساهل قد يهدم المنظومة بأكملها!.
لا انكر لحظات الشك التي راودتني عن الروائي "جورج أورويل" وأنا أتابع فصول الرواية، وكأن الرجل بقصته وضع منهاج ودستور لعمل الطغاة، وكيفية تجنبهم الأخطاء قبل أن تبرد شكوكي مع قصة الحب التي ابتدأت للتو، على الأغلب أنه سيجعل من الحب طريقاً للخلاص!..
كان لقاء سميث وجوليا بالغ الصعوبة، ليس من السهل إيجاد بقعة فارغة من شوائب كاميرات مراقبة الأخ الأكبر، إلا انهما قاما بذلك، تتوقد المشاعر بالذكاء مع احساسها بالخطر ورغبتها بالثورة!..
"لعل الحب لا يكون صادقاً حتى يثور!"، هتفت بحماس قبل أن تتوالى الأحداث على رأسي، ويتم القبض على العاشقين، وأدرك أن الرواية ابتدأت للتو، أي هراء دفعني للاعتقاد بخطورة الحب أو فعاليته؟!..
تسقط كافة المشاعر الإنسانية في سبيل إيقاف الالم.
لم يكن الحزب مهتماً بجرائم "سميث"، كان سيتغاضى عن علاقته بجوليا، جولاته السرية، حتى الغرفة التي قام باستأجارها خفية لم تشكل خطراً أمام ما حملته روحه من علامات استفهام!..
علامات لم يقرر الاحتفاظ بها، بل حمل فضول وعزيمة البحث عن اجاباتها، لذلك استحق الرجل المكوث طويلاً في "وزارة الحب" وتدرج عمليه تعذيبه أو "تأديبه" فيها. لا يصنع الحزب شهداء ولا يريد اذلالهم أو كسر ارادتهم، كل ما خاضه "سميث" حتى ادخاله الغرفة "١٠١"، كان في سبيل تنقيته وتحويل مشاعره القديمة نحو الإتجاة الصحيح!..
"ما المعاناة التي عاشها كاتب الرواية ليسرد بدقة متناهية لحظات الألم الانساني والتدرج البطيء لتنازلاته أمامها؟!"، تتسائل وقد قبضت عليك الرواية ككماشة فولاذية حتى تنتهي منك!..
كان اورويل مختلف، مختلف تماماً، ولم يعشق مشاهدة لطمة النهاية على وجوه قرائه، على الأغلب أنه شاركهم زفرة الارتياح مع انطلاق الرصاصة على مؤخرة رأس "وينستون سميث"، وقد وجدها نهاية ملائمة بعد عجزه عن إيجاد مكان مناسب للأبطال في العالم الذي ابتكره!..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني