رغم مرور السنوات، مازلت أتذكر الصندوق الكرتوني الذي حملت- وصديقتي- فيه الكتاكيت، "على الأغلب ستموت قريباً!"، تجاهلنا عبارة والدتي، وفضلنا تخيل سطح العمارة وقد تحول إلى مزرعة دجاج عالمية أتبادل وشريكتي شؤون إدارتها..
لم تبدأ النبوءة بالتحقق، حتى صعدت الصباح التالي لرعاية "صغاري" وأجد أحدهم جثة هامدة بين كفيها. فركت عيني بشدة، نعم لقد كان ما أراه حقيقياً جداً، وهاهي بقايا الريش شاهدة على ارتكاب صديقتي جريمة فظيعة، "لماذا فعلتِ ذلك؟!"، صرخت بفزع، لتجيبني- بعد ان وجهت لي حدقات فارغة إلا من متعة غريبة: "كان ذلك جميلاً!"..
"هل نزعت زَغَبه قبل عملية الخنق أم بعدها؟!"، لم أجد فائدة من طرح السؤال، فحملت كرتون الكتاكيت وابتعدت مسرعة، لتتعلق هي على سور السطح وتتأمل ارتطام جسد الجريمة على قارعة الشارع الاسفلتي!..
ادركت لحظتها بأن مشروعي انفض أسرع مما توقعت!..
مرت الأعوام وكبرنا، لتصبح شريكتي القديمة معلمة محبوبة في رياض الأطفال، وامارس أنا الخربشة على الورق، متناسية بريق عينيها وحيرتي تجاه ما شَعَرت به لحظة قتلها ذلك الصغير، حتى قامت الحرب واعادتني أحداثها المتلاحقة لحيرتي مضاعفة مئات المرات!...
"لا اخلاقيات في الحرب!"، لا تتمكن مطلقا من تمرير تلك العبارة!..
يفترض أن تكون للحروب جبهاتها القتالية والسياسية، التي تفرض فيها وجهة نظرك، معتقداتك، مصالحك على الآخر، ولا تعد حالات التعذيب والتعنيف، التي تدار في الغرف المظلمة، سوى مساحة من الجنون، وجد فيها بعض المختلين متنفساً لهم! تقول ذلك بكل ثقة قبل أن تكمل محاولاً إثبات وجهة نظرك!..
ما الذي يجعل أحدهم يتلذذ بألم الأضعف منه إن لم يكن يعاني من خطب ما؟! لا أتحدث هنا عن طائر صغير، أو حتى لحظة الألم التي يتخلص فيها احدهم من عدوه بطلقة، بل أقصد تعمد إطالة معاناة الآخر حتى أطراف الموت، أو ما قبله بقليل. فلا جدوى للضحية بعد موتها!..
"لا بدّ وأن يكون ممارس التعذيب شخصا غريبا عن المجتمع؛ شاذا، مجرما، أو ربما مرتزقا تم استيراده للقيام بتلك الافعال!"، تبحث عن الكثير من المبررات لتبرئة مجتمع شعرت فيه بالسلام، قبل أن تعترف لنفسك بأن القائم بفعل التعذيب ليس غريب عنك وعن مجتمعك.
ستراه يعود مساء إلى عائلته بإبتسامة لطيفة وبال مطمئن. وكأن ما قام به ليس سوى واجبه تجاه من يحبهم وتوّجب عليه حمايتهم!..
لكن هل يكذب الرجل على نفسه في محاولة لاخفاء جنونه؟! أم أنه يمارس ذلك الفعل وهو يعتقد بمشروعيته؟!..
في حقيقة الأمر، لم تكن الحروب بالجبهات لتشتعل إن لم تجد مسبقاً مجتمعاً منقسما على نفسه إلى "نحن، وهم"، شيطّن كل منهما الآخر وأصدر أحكامه عليه دون أن يبالي بصحة ما القى من تهم!
بيئة جيدة لتحويل عمليات القتل والتعذيب إلى "وظيفة"، لا تتجاوز وقتها والأطر المسموح بها، خاصة وأنها تتم تحت قانون "الطاعة" وتنفيذ أوامر القادة!..
قد يمنحنا ذلك التبرير، إطمئنان مؤقت، "ستمر الحرب سريعاً"، إلى أن تراجع التاريخ البشري وتدرك مدى ارتباطه بالتعذيب. فعلى الرغم من تميّز الإنسان عن غيره بالصفات الفاضلة، إلا أنه لم يتمكن من اخفاء بقع سوداء لطخته!..
تفوق الإنسان على غرائز مملكة الحيوان، بشهوة التفنن في القتل والتعذيب، حتى تظن أنه يقوم بذلك على سبيل الابتهاج، قبل أن يلقي بتبعتها على طقوس دينية أو اقتصادية واجتماعية. ولم يمانع- مع تطوره وتجريم ذلك الفعل- من استحداثه لوسائل تعذيبه وتطويرها!
أقام الأسوار الشائكة وغرف الغاز وصناعة الموت البطىء بكافة اشكاله، لا شيء فعلي يقف بين الإنسان وبين التعذيب وارتكاب الجرائم. ألم يصف الشاعر غوته أعماق النفس البشرية حين قال: "ليست هناك جريمة أشعر أني عاجز عنها!"..
لعلنا نعاني من شيء ما، وليس القاء تبعات ما نفعل على ظروف الحرب سوى هروب من حقيقتنا؟!..
مازال علماء النفس يضعون دراساتهم، دون الجزم باقترابهم من تفسير قدرة الشخص العادي على تعذيب الآخر حين تُلقى على عاتقه تلك المهمة، بعد أن اظهرت التجارب انسياق 65% من المشاركين إلى أقسى مراحل التجارب "التعذيب حتى الموت"، مهما اختلفت خلفياتهم الثقافية والاجتماعية والعلمية!..
نسبة لا يستهان بها!.. ولن تكون سعيداً بمعرفتها وأنت تتأمل الشخص القابع جوارك بالباص وتخيل مدى قدرته على قلع عينيك، أو قدرتك أنت، من يدري؟!
هل استنكرت ما قامت به شريكتي ذلك النهار، أم أني تمنيت للحظة تذوق المتعة التي بدت عليها؟! ألقيت ذلك السؤال على نفسي قبل أن انفضه سريعاً. لسنا بذلك السوء. كافة تصرفاتنا غير المقبولة لها أسبابها.. اليس كذلك؟!..
لعل سنوات الاضطرابات والحروب، ليست سوى لمحات لما نخفيه فينا. على الأغلب أننا نرتدي الحرب منذ لحظة ولادتنا. وبقدر ما تحمل ظهورنا من ملائكة، نُخفي تحت جلودنا ذات القدر من الشياطين، لنبقى دائماً في حالة تأهب.. حرب خفية، فالآخر واختلافه موجود فينا على الدوام، ننتظر فقط لحظة اظهاره، ولا أسهل من القاء ذنوبنا على ما يحيطنا من ظروف، حتى نتمكن من إيجاد طريقة للتخلص من المعارك الدائرة فينا، أو تمكننا على الأقل من ابتكار وسيلة جيدة للتحكم فيها!..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني