"أشرب حبة باندول"، لا أعرف أن كان الأطباء يدركون بأن نظرات المريض الزائغة حوله بعد سماع هذه العبارة منهم، لا تعني البحث عن كلمات إمتنان، بقدر ما هي محاولة منه لإيجاد آلة حادة يغرسها في كرش قائلها!..
إلا أننا نتماسك. غالباً ما نفعل ذلك، فمازلنا بحاجة لأصحاب الرداء الأبيض. حتى اختراع "حبة باندول"، شافية لكافة الاوجاع، تجنبنا زيارتهم. وحتى يأتي ذلك اليوم نهيب بكليات الطب تكثيف مناهج "علم النفس" على طلابها، بجانب تشريح الجماجم ومصادقة الجثث المتحللة..
في الغالب يتميز "آلهة الباندول" بمقدار هائل من الهيبة، حتى يظن خطأً بأن مريضه الملقى بإهمال "تحت التخدير"، فاقداً للوعي. لحظتها فقط يكشف عن حقيقته التي لا تختلف عن غالبية البشر، بما يملكون من سخافة القول!..
"جميع النساء يغازلن الرجال هذه الأيام!" كانت تلك العبارة هي ما استطعت التقاطه بعد مغادرة الممرضة. على الأغلب أن الطبيب كان يقصدها، وهو يمازح طبيب التخدير، الذي لم يكن يجيد عمله بدليل استماعي لضحكته البلهاء. شعرت بالأسف لعدم قدرتي على تكميم فمي كالعادة بعبارة: "اسكت يا لساني"، فقد كنت متعبة بالفعل، ولن أتمكن من الرد على افتراءات الطبيب حتى دون قيود!..
جاء المساء، وبدأ مفعول التخدير يزول- أو هذا ما اعتقدته- فامسكت القلم بحنق، من الواجب عليّا تفنيد التهمة الخطيرة الموجهة لبني جنسي. لم يترك الطبيب مجالا لمهادنته، خاصة بعد رفضه اقتراحي بازالة إحدى "لوزتاي"، وتصميمه على نزع كلتيهما، موفراً عليّا زيارته أو انتقامه!..
كيف لأحد أن يلقي التهم جزافاً، دون مراعاة الاختلافات الفردية بين شخص واخر، والفروقات في المشاعر والاذواق. كما أن الأهم بين ذلك وذاك، هو تباين تقبل "فعل المغازلة" اخلاقياً في المجتمع الواحد!!..
يعتقد البعض أن تشابه أعضاء الإنسان التشريحية، وتطابق وظائفها، تجعل أرواحنا تنسخ بعضها البعض، وبالتالي تضع نسبة لا بأس بها من المجتمع "معيار الطبيب الجائر"، نصب عينيها وتقوم بتطبيقه!..
المعيار الذي يمكن للمرأة من خلاله توجيه ذات التهمة لكافة الذكور، لولا حساسيتها المفرطة تجاه تطبيق العدالة. لا أحد يشبه آخر، أو يساويه في المقدار والقيمة، ولا ينبغي الجور على النادر من الذكور، "المترفعون عن فعل المغازلة"، على الرغم من أن الفقه لم يضع حكماً للنادر واعتبره "عدماً" أمام ثبوت التهمة على الغالبية العظمى من الرجال!..
في المقام الأول، يجدر بي التنوية إلى أن علماء اللغة برّأوا المرأة جملة وتفصيلاً، لحظة وضعهم تعريفاً لفعل الغزل. فقد حددته معاجمهم بكل دقة بأنه: محاولة التحدث إلى المرأة والتودد إليها، وعلى الأغلب لا يطمع "طائر البطريق" في مثل هكذا تودد!..
برغم التعريف المنصف، مازلت أرى أن توضيح بعض أفعال النساء سيزيل الكثير من الالتباس والوهم المسيطر على عقول مجموعة الذكور، الذين اهملوا، جهلاً أو عن عمد، اهداف أفعال المرأة والنوايا التي تحركها:
تبتسم الممرضة لطبيبها، أو تغازله كما يظن، حتى تتمكن من الاحتفاظ برأيها الحقيقي فيه. الرأي الذي لا يريح المرضى قبل اجراء العملية لولا قيود التزموا بها!..
تغازلك زوجتك في سبيل حصولها على الفستان "المشمشي" الذي لمحته على أحدى مانيكات العرض. تمتدحك أختك، وتؤلف الكثير على لسان صديقاتها لحضور حفلة احداهن، وفي الغالب تنسب الاقوال المكذوبة لصاحبة الحفلة حتى تقيم أخرى حفلاً جديدة!..
تشعر بالغرور، الممزوج ببعض الخجل، تجاه الدهشة التي تعتلي ملامح زميلتك في الجامعة أو العمل، بينما لم يعني تقوس حاجبيها سوى الطريقة المثلى لقيامك بالعمل نيابة عنها، أو وضع اسمها على خانة معدّي البحث، الذي قضيت أشهر عديدة لانجازه. وعلى الرغم من هذا تبقى المرأة هي الأكثر كفاءة في الأعمال المكتبية والإدارية. أسأل مديرك للتحقق من صحة ما أقول!..
لا أنكر أن للمراهِقات بعض التصرفات الطائشة، فها هي ترشق نظراتها هنا وهناك ليفسرها الذكور اعجاباً- وهي كذلك بالفعل- إلا أن ذلك الإعجاب لا يتخطى موديل سيارتك، أو تقييم مظهرك مقارنة بموضة العصر، أو ما يرتدي فنانها المفضل، إلا أن تعميم هذه الحالة سيعد خطأ فادحاً!! كثيرُ من النظرات الساهمة التي وجهت اليك، عزيزي الرجل، كانت الشفقة محركها الرئيسي!..
يبقى البؤس مادة دسمة للالهام!..
رغم كل ما سبق تبقى أجمل الرجال، وأكثرهم ابهاراً في عيني ابنتك، حتى يأتي من يتفوق عليك زوجاً لها، يحمل عنها اعباء الحياة بينما تعيد هي طلاء أظافرها وتخطط في ذات الوقت لإنشاء مملكتها الخاصة..
لعل والدتك هي الاستثناء الوحيد من نساء الأرض، إلا أن هذا لا يمنعك من العودة للوراء قليلاً، والتدقيق في لهجتها وأدعيتها، قبل القاءك كيس القمامة وبعدها، تدقق المرأة على نوعية الخدمة ومدى اتقانها!..
تحرياً للصدق والإنصاف، يجدر بي الاعتراف بتودد بعض النساء للجنس الآخر، الجريمة التي لا يشفع فيها صدق مشاعرها، أو عذر الوقوع في شرك "الحب"، الذي اجاد الادباء من الرجال صياغة رواياته. مازالت تلك الفئة مخطئة في أعين بنات جنسها- وإن اعفيت من العقاب لندرة حالتها- حتى تعود لرشدها!..
قد نختلف في بعض المسميات، إلا اننا لا نختلف على حقيقة أن الرجل كائن عصي، يتفوق على المرأة بقوته الجسدية، مما يضطرها أحيانا إلى تجاوز ما لا يرضيها. وعلى الرغم من تلك القوة، إلا أن من العدل تصنيفه ضمن الكائنات الأضعف، نسبة الى محدودية ذكائه. ليس أسهل من السيطرة على كائن لا يفهم ما يريد، ولا يريد أن يستقر على فهم معين حتى يجد ما يلهيه عن كل ذلك: "لعب دور المحارب صغيراً، واشعال الحروب مع تقدمه في العمر!"..
اليس مثل ذلك الكائن جدير بالدراسة والاهتمام؟!..
قد يرى البعض أن لبقايا المخدر دور لإنحيازي التام للمرأة، مقابل تجنيا قاسيا على الرجل. إلا أن ذلك المخدر منحني شجاعة قول الحقيقة سافرة، ولم تكن الحقيقة يوماً بطعم حلو. ولعل المرأة في حقيقة الأمر لا تختلف عن الاطباء، وتحمل ذات القسوة في تشخيص الحالات، وطرح ما تقتضي من حلول، لولا تغليف حديثها بالكثير من اللين، حتى تبدو عبارة: "أشرب حبة باندول!"، غاية في اللطف، ونوع من أنواع التدلل حين تصدر منها!..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني