يمكننا تعريف الإسلام على أنه الإيمان النابع من قناعة الفرد الشخصية بوجود الله، والتسليم التام باليوم الآخر الذي سيكافئ فيه أو يعاقب عن صواب عمله أو انحرافه، ولا تخرج اشتقاقات الملل والأديان في الغالب عن نطاق ذلك التعريف..
بدأ الإسلام بنوح كما ذكر في القران: "فإن توليتم فما سألتكم من أجر، إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين"، فكيف تعامل أول من أعلن اسلامه من البشر مع المهمة الشاقة الملقاة عليه، خاصة وان المسافة الزمنية التي فصلت بينه وبين وصايا آدم كانت كافية لتحريفها؟!..
يسعى الإنسان لإيجاد أجوبة لاسئلته الوجودية، أو عن ما يغطيها ويحميه من طرحها، حتى يجد آلهة مبهمة غامضة للتسليم والقاء العبئ عنه. وأغلب الظن أن قوم نوح وجدوا في قوى الطبيعة المتعددة آلهة مناسبة لاخرجهم من مأزق التيه، خاصة مع عدم تمكنهم في ذاك الوقت المبكر من فهم الظواهر الطبيعية أو تفسيرها، فخصصوا "للقمر أو الشمس والريح،..." كهان ونذور تقربهم إليها وتجنبهم سخط ثورتها وغضبها!..
تجد بوضوح أن استنكار قوم نوح الأولي لم يكن لفحوى رسالته التي اقتصرت على "دعوة توحيد مجردة من العبادات"، بقدر ما احتجوا على كون مُبلغها بشري بلا قوى خارقة، لم ينبغي له- كما رأوا- حمل الرسالة، وقد سبقه إليها رسل من اجناس مختلفة، كما ذكرت الايات: "مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا"، "مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ"..
منذ استوطن الإنسان الأرض، وللكلمة موضعان: باطل وحق. وطالما كان الباطل سهلاً ومربحاً، عكس الكلمة السواء التي تضع صاحبها بين مطرقة المصالح الخاصة، وسندان المنفعة واصحابها. وككل الانبياء والرسل، الذين أتوا من بعد نوح، اقتصرت رسالته على "التبليغ المجرد من استخدام القوة"، إلا أن ذلك الذي لم يرضي مترفي قريته أو منتفعيها الذين دعوا بغلظة للتشبث بعرافيهم وكهنتهم: "وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا"..
لم يكن لأول المسلمين أن يخوض تجربة سهلة، لا بّد وان تحمل تجربته كافة المتناقضات والمصاعب؛ من وعيد وزجر وسخرية وتهديد بالطرد والنفي من القرية، حتى أن اعباء العمر الطويل كانت قد وضعت على عاتقه، ليكون مجمل ما مر به عبرة لمن سيلحق بعده، إلا أن غالبية قومه اختاروا امتيازات الكفر التي منحتها لهم الالهة، عن الشك في وقوع عذاب رب نوح من عدمه: "أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذب يوم أليم"..
على الأغلب أن سلم البشرية حينها كان في بدايته. لا زال قوم نوح يسكنون الكهوف ويعيشون حياة شاقة قبل اكتشاف الزراعة أو طرق البناء، بدليل وعود التطور التي مازال الرسول يعدهم أياها حال ايمانهم:
"فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا,
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا, وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا"..
قد تكون أخطر خطايا البشر، تسليمهم "بديمومة الحال وثباته"، ورفضهم حقيقة التغيير والتطور. الخطيئة التي وقع فيها قوم نوح برفض غالبيتهم نبؤاته جملة وتفصيلاً، واستبدالها بتحدٕ سافر لإظهار عذاب ربه، الذي لا زال يحذرهم من الوقوع به: "قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ"..
تنسخ الخطايا بعضها البعض، ولم يكتفي البشر بما لديهم، بل مارسوا بارادتهم الحرة خطيئة "الكبر" التي استسلم لها ابليس من قبلهم. فبرغم إمداد نوح بالرسل، الذين طالبوا بهم من قبل: "كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِين"، احتجوا مجدداً، بسبب انضمام فقراء وضعفاء القرية إلى نوح، وقد رأوا في ذلك تمييّزا اجتماعيا سيضعهم في الصف الثاني، بعد ان كانوا دائماً في المقدمة: "وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ"..
هل تسلل اليأس إلى نوح؟ وهل قام بالدعاء على قومه حقاً؟!، تتسائل وأنت تبحث في نجواه لربه، لتجده مستمراً سراً وجهراً في نشر دعوته، دون تجاوب ملحوظ، حتى شعر بالهزيمة ورفع رأسه سائلاً النصر، ليأتيه أمر الله: "وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا"..
لم يكن لنبي أن يدعو على قومه، حتى في اللحظة التي اختص فيها سيدنا نوح طلب النجاة للمؤمنين، فتح الله بابها بالمقابل لكافة مرافقيه في الفلك: "فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ"!..
انتهى الطوفان، إلا أن فزع نوح من اهواله لم يزُل عنه. كان الخوف من تكرار الكارثة هو من اجبره على ذلك الطلب القاسي، دون أن يدرك أن لا ضمان حقيقي لإنهاء حالة الكفر والجحود. يبقى الخير والشر نقيضان متلازمان في روح الفرد دون الحاجة إلى مؤثرات خارجية: "وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا"
تفرع سياق قصة نوح عليه السلام عن أحداث عدة، إلا أن بناء الفلك- الغريب على قريته حينها، وما نتج عنه من خوض غمار الماء لأول مرة- حقق للبشرية قفزة نوعية وانجازاً هاماً في سلم التطور: "وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ".
طالما لحقت الأحداث الكبرى في تاريخ البشرية، من كوارث وحروب، تغييرا جذريا، ايجابيا- في الغالب- قبل أن يعاود الإنسان تكرار اخطائه، فكما كان للرسل والانبياء تجربتهم الخاصة، يخوض البشر صراعاتهم مع ذواتهم دون توقف.
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني