يبدو أن عداوات سكان الجزيرة العربية لم تتوقف بينهم البين منذ تم سكنها، سواء اكتفت تلك الصراعات بدسائس التحالفات ومؤامراتها، أم استخدمت السلاح في الغارات والمعارك التي سعى أطرافها لفرض النفوذ والسيطرة.
تعد معركة "يوم الكلاب الثاني" التي قامت بين قبيلة تميم وبين قبائل مذحج اليمنية من اللحظات الفارقة في تاريخ الجزيرة العربية..
على الرغم من استعداد قبائل مذحج بالسلاح والفرسان الأشداء، إلا أن شروط النصر في المعارك لا يتضمن تعدد القادة وإختلاف اهدافهم أمام عدو مشترك. هذا ما كان عليه اليمنيين، عدى الاشاعات التي أخذت تنتشر بين الصفوف ليأمر بعض القادة بانسحاب مرتبك!..
لم تسد تميم ساحة المعركة وحسب، بل أوقعت بسيد مذحج وأشهر فرسانها "عبد غوث الحارثي". كان الحدث كبيراً حتى على بني تميم، فأنت لا تقبض كل يوم على فارس كالحارثي..
"إن كان لا بّد من الموت، فلم لا يكون رحيماً؟!"، سأل الحارثي آسريه الذين قاموا بقطع أحد شرايينه، وفكوا عن لسانه شريطة أن لا يقوم بهجائهم، ليوافقهم على ذلك مقابل أن يكفوا أيضا عن لومه. الطلب الذي استبدل به النمط التقليدي لمقدمة قصائد العصر الجاهلي وابتدأ به قصيدته:
ألا لا تلوماني كفى اللَّومَ ما بيا،،
وما لكما في اللَّوم خيرٌ ولا لِيا..
ألم تعلما أنَّ الملامةَ نفعُها،،
قليلٌ، وما لومي أخي مِن شِماليا..
تغدو لحظات المرء الأخيرة أكثر ثمن من اضاعتها في مهاترات تافهة. تنبه الحارثي لذلك ووجد أن الأجدى به استحضار رفاقه من بني قومه، لعل ذكرهم يخرجه من مأزقه:
فيا راكبًا إمَّا عرضتَ فبلِّغنْ،،
نَدامايَ من نَجْرانَ أنْ لا تلاقِيا..
أبا كربٍ والأيهمَينِ كليهِما،،
وقَيْسًا بأعلى حضرموتَ اليَمانيا..
"ما الذي وضع عزيزاً مثله في تلك النهاية المهينة؟!"، رغم معرفة عبد غوث بالجواب، إلا أنه استمر بالتحسر على فرار قومه وتركه بين خيارين اسهلهما الموت غريباً وحيداً!.
لعله أراد بالأبيات التالية المليئة بالتأنيب ترك موعظته الأخيرة لهم حتى يتجنبوا الوقوع في خطيئة التخاذل مجدداً، دون أن يدرك بأن تكرار الذنوب هو أكثر ما تجيده الأجيال:
جزى اللهُ قومي بالكُلابِ ملامةً،،
صريحَهمُ والآخرين المَواليا،،
ولو شئتُ نجَّتني مِن الخيل نَهْدَةٌ،،
ترى خلفَها الحُوَّ الجيادَ تَواليا..
ولكنني أحمي ذِمارَ أبيكُمُ،،
وكانَ الرماحُ يختَطِفْنَ المُحاميا..
إعتاد العرب ربط السنة الشعراء حتى يكفوا عن هجائهم، وكان عبد غوث الحارثي شاعر بليغ بجانب فروسيته. في ظروف عادية لم يكن بنو تميم ليراهنوا على تجنب هجائه، لكن اللحظة الاستثنائية اشعرهم بالأمان. ليس من السهل نظم الشعر ووزن القوافي ونحن نستقبل الموت، لكن الحارثي فعلها ونظم أشهر قصائد الجاهلية في رثاء النفس..
أقول وقد شَدُّوا لساني بنِسعةٍ،،
أمعشرَ تَيْمٍ أطلِقوا عنّي لِسانيا..
مهما بالغ المرء في الشجاعة أمام الموت، إلا أن النادر من قد لا يقع من رهبة مواجهته. تتخلى نسبة لا بأس بها عن مبادئها من أجل أرجاء ذلك اللقاء، وقلة شجاعة تختار استقباله بصمت، إلا أن الحارثي وقع في "مصيدة الانتظار" واحتمالية وقوع الموت من عدمه، اللحظات الأشد والأصعب، لينتابه الفزع ويحاول شراء روحه:
أمعشر تَيمٍ قد ملكتمْ فأسجِحوا،،
فإنَّ أخاكم لم يكن مِن بَوائيا..
فإن تقتُلوني تقتُلوا بيَ سيدًا،،
وإن تُطْلِقوني تَحْربُوني بماليا..
تدارك الحارثي سريعاً استحالة إيجاد الرحمة من بني تميم، فاستسلم ليقوده حنينه إلى أكثر مواضع الماضي حميمية، ايعقل أنه لن يزوره ثانية؟!:
أحقًّا عبادَ اللهِ أنْ لستُ سامعًا،،
نشيدَ الرِّعاءِ المُعْزِبينَ المَتاليا؟!..
لم ينتهي الحارثي من سؤاله الجزع، حتى أعادته سخرية عجوز إلى الواقع. هل بالغت في كلماتها أو أنها اشعرته بالغيظ؟! الأرجح أن كلمات العجوز لم تستفزه بقدر ما استنكر هو الآخر القيود التي احاطته. لعلها المرة الأولى التي يقع فيها يمانياً في اسر قبيلة "عبد شمس"، فحق عليه تخليد تلك الصورة المنافية لمنطق ذلك العصر:
وتضحكُ منِّي شيخةٌ عبشميَّةٌ!،،
كأنْ لم تَرَى قبلي أسيرًا يَمانيا؟!..
على الرغم من حرص بني تميم الشديد واحاطتهم بالحارثي، إلا أن نقاد الشعر ودارسيه اشادوا بالهجاء المبطن الذي تسرب من بين ابياته، فمازالت نساء بني تميم يحاولن التقرب من اسيرهم حتى وضع زوجته بينه وبينهن. لا أدري إن كان سيرفض ذلك العرض في ظروف أخرى، أم أنه تمسك به كونه آخر فعل يملك حرية اختياره:
وظلَّ نِساء الحيِّ حوليَ رُكَّدًا،،
يُراوِدْنَ منِّي ما تُريد نِسائيا..
وقد عَلمَتْ عرسي مُلَيْكَةُ أنني،،
أنا الليثُ مَعْدُوًّا عليَّ وَعاديا..
وقد كنتُ نَحَّار الجَزور ومُعمِل،،
المَطِيِّ، وأمضي حيثُ لا حيَّ ماضيا..
استمر الشاعر على مدى أبيات القصيدة بتكرار صوره مع الخيل. مازال ذلك الفارس الشجاع وليس رثائه لنفسه تمسكاً بالحياة أو خشية من الموت بقدر ما كان مصابه أن يموت اسيراً مهزوماً:
وأنحَرُ للشَّرب الكرام مَطِيَّتي،،
وأصدعُ بين القَينَتَيْنِ رِدائيا..
وكنتُ إذا ما الخيلُ شَمَّصها القنا،،
لَبيقًا بتصريف القناةِ بَنَانيا..
وعاديةٍ سومَ الجراد وزعتُها،،
بكفِّي، وقد أنْحَوا إليَّ العَواليا..
يبدو أن الإنسان يقتطع الكثير من شريط ذكرياته لحظاته الاخيرة، ويبقي فيه الصور الأجمل، لتبقى هي آخر اجزاءه الحية:
كأنِّيَ لم أركب جوادًا ولم أقلْ،،
لخيليَ: كرِّي، نفِّسي عن رجاليا..
ولم أسبأ الزَّقَّ الرَّويَّ، ولم أقل،،
لأيسارِ صدق: أعظِموا ضوءَ ناريا..
يحدث أن تلامسك قصيدة، تشعر في شجن ابياتها ينبع منك، وكأنها لم تنظم إلا بعد مرورها على قلبك، كقصيدة شاعر العصر الجاهلي "عبد يغوث الحارثي".
لا تعلم أن كان تشابه وضع اليمن الحالي، بما عاشته قبائل مذحج وشاعرها سابقاً، هي من اوحت بأنها تعنيك، أم أن قلبك اضحى زجاجياً شفافاً حتى انعكست عليه أوجاع من سبقك؟!..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني