بدى الكون حوله ساكناً وهو يسير على ذرات الرمل الساخنة؛ لا وقت لديه لمسح الرشح الذي يتصبب منه، فأمامه مهمة صعبة يجب الاستعداد لها؛ "لكن كيف للمرء أن يعد نفسه لمثل هذه المهام؟!"..
مازال قابضا على ثوبه وهو يحث نفسه على مواصلة السير، قبل أن يشعر بقطرة مالحة غطت زجاج عينه، لعلها قطرة عرق تسللت من جبينه، أو أنها دمعه لم تطق الإنتظار! زَمّ شفتيه قبل أن يفرك وجهه بعنف، لا شيء سيمنعه عن أداء مهمته، سيذبح طفله "إسماعيل" مهما تطلب منه ذلك، فلم يكن في رؤيته أي مواربة أو إمكانية لتأويل آخر!..
تنهد بعمق، لعله امتحان منصف، فلم يكن الأول الذي توجب عليه دفع أضحية بشرية، كثير من السابقين فعلها، كاد بنفسه أن يكون ضحية لنيران والده، كيف له نسيان تلك الذكرى؟!
توقف عن السير، وقد رجعت به ذاكرته لسنوات طويلة، لعله شعر اليوم فقط بقسوة قلب والده، هذا إن امتلك قلباً، "كيف قدر على ذلك؟!"، احتراقه بنيران الأرض أخف وطأة من المساس بإسماعيل!..
اغمض نبي الله "ابراهيم" عينيه قبل أن يعاود سيره، إنه قوي، يجب أن يكون قوياً رغم الإرتعاشة التي أخذت تأكل احشائه، لم يتم اختياره لهذه المهمة إلا بسبب قدرته عليها- قال في نفسه قبل أن يضيع بين الأفكار التي تحاول صده.
"ماذا لو كان أضعف؟! هل سيكون ضعفه حجة تعفيه من ذبح ابنه؟!"، نفض تساؤله وهو يشد من خطواته، انتهى وقت طرح الأسئلة والشكوك منذ زمن، وأي تباطؤ، حتى في أثر سيره، سيعتبر نوع من أنواع الخذلان والتخلي الذي لا يقبله على نفسه. عادت حبات العرق تتساقط على أجفانه دون أن يحاول البحث عن مصدرها الحقيقي، قبل أن يطل عليه فجأة من وسط الصحراء!!..
يعرفه مهما حاول التنكر، لن تجدي ثياب التاجر، التي ارتداها، في خداعه.. مازالت رائحة القار والحرائق المنبعثة من مساماته تبعث فيه ذات النفور. في حقيقة الأمر كان إبراهيم قد توقع حضوره في وقت أبكر، فما الذي أخره؟!..
- "الى اين أنت ذاهب؟!"، قال الرجل، ليتجاهله إبراهيم..
- يبدو أنك جننت، تذبح إبنك لمجرد حلم مزعج!! كابوس صحوت على ثقله لتنفذه! لست سوى مجنون، هلوساتك ستدمر أيامك القادمة كما دمرت ماضيك، ألم تكتفي بخسارة أقرب الناس إليك؛ تضحيتك بوالدك وقبيلتك؛ تشردك في الأرض الذي لم ينتهي؛ الن تثوب إلى رشدك يا ابراهيم؟!..
توقف إبراهيم، وهو يجزُّ على أسنانه غيظاً من الكائن الذي لم ييأس من ملاحقته طيلة عمره، مازال مستمرا في مواصلة الحرب عليه رغم هزائمه المتكررة!!..
"طفح الكيل"، لم يعد النبي إبراهيم قادراً على تجاهله أكثر من ذلك، تلفت حوله باحثاً عن من يحاول إيقافه، التقط بعض من الحصى وألقاها نحو التاجر المزيف، لتخترق فراغه واحدة تلو الأخرى، قبل أن يرتفع لهاث النبي وقد أصابه التعب، أو أصاب روحه؛ يبدو أن الشيطان قد أجاد عمله هذه المرة وأخره عن موعده!..
استدار ابراهيم نحو طريقه، وأخذ يضرب الرمل بعنف، لماذا لا تبتلعه إحدى هذه الخطوات وتريحه؟!.. إلا أن الرمل لم يبتلعه، بل أنبت له عدوه مجدداً وهو يصرخ في وجهه:
- لماذا "اسماعيل"، من بين ابنائك، من تضعه أمام تجاربك المجنونة؟! أنتظر هنا، هل أخبرت "هاجر".. أمه؟! أشك في ذلك، كانت مؤمنة مصدقة بك على الدوام، فلماذا أخفيت عنها مثل هذا الأمر الجلل؟! بالطبع لم تجد ما تقول!! كيف لك تفسير عودتك اليوم لتذبح رضيعها الذي تركته معها ليواجها مصيرهما في واد غير ذي زرع؟!..
مسح إبراهيم جبينه بكم ثوبه، بينما أخذ التاجر يصيح خلفه: "ألم تسأل نفسك من قبل: لماذا تريد التخلص من إسماعيل؟ وكيف تجد لنفسك أعذار الأوامر الإلهية الجاهزة لفعل ذلك؟!"..
سد النبي أذنيه عن وسوسة عدوه، لقد كان أقوى منه دائماً، فلماذا شعر الأن بالضعف؟! هل لاقى كلامه هوىً في نفسه، أم أنه فقد إطمئنانه؟!..
- "إعترف بهزيمتك يا ابراهيم، لا وقت أمام عنادك، لن تحمل الوزر الذي تتوقعه جراء هزيمة رحيمة تنقذ فيها ابنك، توقف قليلا وفكر بالأمر من جهة أخرى؛ ألا يمكن أن يكون رفضك للمنام هو المقصد الذي أنت مطالب به، لا يجدر بنا قتل ابنائنا كما فعل والدك، اليس كذلك؟!"..
مازال الهمس يخترق أُذني النبي، لينحني مجدداً ويبعثر الرمل حوله، باحثاً عن حجارة أكبر، يريدها ضخمة ليصمت بها الشيطان الأكبر، وشيطان نفسه المختبىء بين ثناياه!..
"ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء!"، أخذ النبي يتمتم بأدعيته حتى لمح "إسماعيل" في الموعد والمكان المتفق عليهما. كان قد أخبره صباحاً عن ما رأه في منامه، ولعله تمنى في قرارة نفسه لو أنه أبدى بعض الاستنكار، أو طلب فرصة لبحث مثل هذه المسألة! ربما كانا وجدا بعض الحلول، لا تنفذ الحلول أبداً، إلا أنه- على أية حال- لم يجد من ابنه الرفض، وها هو ينتظر عهدهما لإراقة دمه، لم يتبقى له سوى بضع خطوات ليطفىء أنفاس اسماعيل!!..
- لماذا تقصر المسافات حين نريد لها اتساعاً؟! تسائل إبراهيم قبل أن يعود ويشعر بالخطوات جواره: إنه أنت من يقصر المسافات، عد لرشدك ودع عنك جنونك؟!..
توقف إبراهيم، في انتظار المزيد من الإلحاح، لكن الانفاس الملاحقة له اختارت الصمت فجأة، "لماذا توقف الآن؟! هل استكثر على إسماعيل بضعة أنفاس اقضيها وأنا احاربه، لماذا صمتَّ أيها الوغد المتلاعب؟!"..
عاد النبي ليلتقط ما استطاع من حصى ورمل بين قبضتيه والقاها على الجسد ذو الرائحة المحترقة، ليتحول إلى شعلة من نار، أخذ إبراهيم يراقبها حتى انطفأت، لحظتها فقط أعطى لدموعه الحرية المطلقة في التساقط، لن يخالف أوامر ربه وينهي حياته راجياً مغفرة تهاون أو لحظة شك..!!
عاد الطريق يقصر أمامه، واسماعيل يستقبله بابتسامة حزينة، وقد قبض على سكين حاد، مازال يحد طرفها حتى سلمها واستسلم لوالده..
فتح ابراهيم عيناه على أكف غارفة بالدماء، لم يستوعب ما حدث بسهولة، أحتاج وقت أطول من العادة ليستوعب استبدال ذلك الكبش بابنه!! وأن ذلك يعني اجتيازه، وطفله اسماعيل، التجربة الإنسانية الأشد والأقسى، مزيحين عن بقية البشر عبء تقديم أضحيات أغلى من قدرتهم على الدفع!..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني