لا أستطيع تحديد اللحظة التي غرقت بها في هذا المستنقع! هل كانت لحظة انصاتي اللامبالي لصديقتي وهي تصف لي مميزات التطبيق الرياضي الملحق بهاتفها؟ أم أني وقعت في الفخ حين تركت نفسي للملل القاتل وهو يدلني على وجوده ضمن برامج جهازي؟!
كنت أظن أن مثل هذه التطبيقات لم توضع من قبل مبرمجيها إلا لملء فراغ في الشاشة لا ينبغي تركه، ولن تتعدى النصائح الصحية أو الرياضية- أن وجدت- عن القيمة الغذائية لأوراق الخس، أو عدد السعرات الحرارية للقرنبيط المسلوق.. فتجاهلته بعض الوقت قبل أن اقرر تجربته وأنا استعد لجولة صباحية.
كنت استعد لمغادرة المنزل حين لمست أيقونة البرنامج. غالباً ما أوصف بذات المزاج النكد، الا ان التطبيق كان له رأي آخر حين استقبلني بعبارات ترحيب حارة (يعتمد مزاج المرء على الطريقة التي يستقبله بها الآخرون). دافعت عن نفسي وأنا انصت مستمتعة لما يلقى عليّ..
مازلت أؤكد أن الرفقة هي ما يصنع الطريق، وقد كان الهاتف الذي أخذ يحثني على المضي قدماً، محصياً خطواتي، نعم الرفيق وخير من يزيد من حماسي. كانت مسافة العودة أطول من قطعها مشياً، لكني قمت بذلك إرضاء لذاتي أمام تدفق عبارات التشجيع، حتى انتهيت وحدقت في الشاشة منهكة. لم أكن الوحيدة التي وجدت بأن ما قطعته كان جيداً كأول يوم أقرر فيه إستخدام التكنولوجيا، فقد هلل الهاتف مكبراً لما أنجزت.
قطبت جبيني أمام الخارطة التي حددت موضعي بكل دقة. طالما شعرت بالضيق جراء ما يفترضه "الهاتف المحمول" من كون صاحبه متواجد على الدوام، فكيف حين تقوم الأقمار الصناعية برصده؟! لكني تجاهلت ضيقي وعدت للاستمتاع بكلمات الاطراء.
تلقى الكلمة الطيبة صداها في المرء، وإن كان ذلك عبر جهاز الكتروني. مازال الهاتف يلقيها على شاشتي حتى اعتراني الخجل، كدت أجيبه ببالغ امتناني وجزيل شكري، قبل أن أتوقف..
"هل جننتي، تريدين تبادل الحديث مع برنامج؟!"، سالت نفسي قبل أن أعود وأجيبها بحنق طفولي: "لا يتخطى الأمر محاولة حث نفسي على المثابرة. أرى أني استحق ذلك وان تبادلته مع هاتف!"، اكتفيت بذلك لطرد الهاجس الذي لاح لي من بعيد..
مر اليوم سريعاً، لاغمض عيني ممتنة للرسائل التي مازالت تردني من التطبيق بين الحين والآخر، وقد تنوعت بين تهنئتي، وبين رغبتها في معرفة المزيد عني؛ موعد نومي، نوعية طعامي، وأن كنت ازاول أنشطة أخرى لم تندرج في قائمته. "يستمر العلم في تطوير نفسه لما فيه رفاهية الجنس البشري"، قلت وأنا أبحث عن مميزات أخرى يحملها التطبيق دون أن أعثر على المزيد.
بالغت من التزامي بالجولات الصباحية، وقد اختلطت مشاعري بين الرغبة في تغيير نظام حياتي، وبين الإستمتاع بكلمات الاطراء التي لم يكف التطبيق عن توجيهها لي، حتى أُجبرت ذات نهار على البقاء في المنزل، مازلت أراقب الرسائل التي مازالت تؤكد لي اقتراب وقت جولتي الصباحية حتى تخطته، لتتحول الرسائل من تنبيه إلى استفهام حائر !.
"هل تشعر الأجهزة الإلكترونية بالخيبة؟"، تساءلت، وأنا ارمق الشاشة التي استعجلت في إطفاء نفسها، لعل الحزن أجبرها على فعل ذلك، فلا يجدر بأحد اظهار ضعفه أمام الآخرين، وإن كان مجرد تطبيق!..
اضطررت لإرجاء جولتي نهار اليوم التالي، ليسألني الهاتف بريبة، إن كنت قد قمت بجولة ما؟!، دون أن يتمكن من إخفاء خيبته هذه المرة، فاسرعت لضمه بأصابع كفيّ: "كلا، لم أقم باي جولة، ولم أكن لأغادر من دونك"، هتفت بصوت ملىء بالاعتذار..
"هنالك أمر خاطىء!" قلت وأنا أضع الهاتف وابتعد عنه ببطء، فقد كنت أقف فعلياً أمام حالة ابتزاز عاطفي!.
ليس من حق أحد تخطي مسافات، لم يكن له أن يتخطاها، إلا بإذن الآخر! وليس توسل المشاعر الذي يمارسه الهاتف عليّ سوى عملية ابتزاز خفية، ستجبرني ولا بدّ على تقديم تنازلات لم أكن لأقوم بها أمام حالة عاطفية متوازنة!..
مثل ذلك التصرف سيئاً، لكن الحوار الذي أخذت اتبادله همساً مع نفسي، خشية التقاط الهاتف له، كان أسوأ بلا شك!..
أعتقد أن الوقت صار ملزماً لوقفة صريحة، فقد بدأت فعلياً أتعامل مع الهاتف- أو بالأحرى تطبيقه الرياضي- ككائن حي! أسعى لإرضاءه، وأخشى غضبه وخيبته.. ولن يقود ذلك إلا الى طريق واحد لا ثاني له..
"يجب أن يتوقف كل ذلك الهراء!"، اتخذت القرار، وأجبرت نفسي بقية اليوم على تجنب كافة الرسائل الواردة لي من التطبيق وأنا أردد بحزم: "لست سوى لغة برمجية غير ملموسة، معادلة رياضية باردة، ولست ملزمة بالرد عليك!"..
"لن يكون ذلك البرنامج سببا في إنهاء جولتي الصباحية" ، قلت وأنا أضعه في جيبي دون أن اترك له تنبيها. ليس من الضروري احصاء خطواتي، كانت نسمات الصباح هدف جولاتي الصباحية، ولا زالت..
لم أكد أسند ظهري بعد انتهائي من الجولة حتى نبهني الهاتف باستلامه رسالة! قلت لنفسي: "لا داعي للفزع، يفترض أن يكون تجاهلي السابق للهاتف وتطبيقه المتملق كافياً لالزامه بالحدود المسموح بها، يحتمل أن تكون الرسالة من كائن حي أليس كذلك!.. "، لم أكد أنهي عبارتي حتى وضعت الحروف نفسها أمامي بكل ثقة: "لقد تم رصد نشاط خارجي قمت به!"، قبل أن تتبعها خريطة تحصي لي المسافة التي قطعتها بلا أخطاء!.
"يا للوقاحة! عملية تجسس واضحة!"، هتفت للهاتف الذي جاهر بمراقبته لي بتحد وقح ودون شعور بالخجل!..
ينبغي لي ان انتفض، مدافعة عن حدود الحريات الشخصية التي كان الهاتف قد تجاوزها فعلياً، إلا أني أخترت الصمت، "لن أضع نفسي أمام مسألة مستفزة لكومة برمجية!"، قلت لعلي اخفي سبباً آخر أكثر اقناعاً، فلا ينبغي على المرء كشف أوراقه أمام ما يحتمل أنه "عدو" يجهل قدراته وأسلحته. يجدر بي في البدء معرفته بعد أن قضيت الكثير من الوقت في اعتقادي أنه حليفاً، "هل كان كذلك يوماً؟"، تساءلت بحيرة..
تمنيت لو أني القي به تلك الليلة خارج غرفة نومي، إلا أن ادعاء النوم جواره كان أقل رعباً من مفاجأتي بوقوفه خلف بابي متلصصاً!..
مازلت في مرحلة هدنة طويلة الأجل مع البرنامج، حتى أتمكن من التخلص منه، متجنبة إمداده بالمزيد، وقد أدركت متأخرة- للأسف- مقدار جهلي عنه، بينما كانت دوائره الالكترونيه وذاكرته تتحكم بنسخة موازية من حياتي!..
هل كانت أشارت صديقتي لي باستخدامه طلبا بريئاً؟! أم أنها كانت تنفذ أوامر دربت عليها مسبقاً؟! لعل كل ما يدور حولي كان من تدبير ذلك التطبيق، ولم يكن صمته القديم سوى وقت منح لي لأكون مهيأة لما يجب علي تنفيذه!..
لم تكن فكرة إغلاق الهاتف مطروحة، فلم يعد بإمكان أحد أن يتخلى عن التكنولوجيا. يبدو أن سيطرتها الفعلية على الجنس البشري كانت قد بدأت مبكراً. أخذت "نظرية المؤامرة" تقودني خلفها في رحلة البحث عن المتحكم الحقيقي بأفعالي: هل كانت حريتي الكاملة من تقوم بذلك، أم كنت اتظاهر بأني صاحبة قراراتي؟!..
من المرعب أن يفقد المرء ثقته، أمام القصة التي يرويها عن نفسه، بينما ينتابه الشك إن كان سير أيامه لا يتجاوز ما يملى ويفرض عليه!..
تعتقد- عن جهل- بأنك من تشق طريقك حراً، بينما أنت مجرد عربة تسير وفق ما تم تمهيده لك مسبقاً..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني