لم يشعر والدي يوماً بوجع في أسنانه، ولم يذهب إلى إحدى عياداتها، لذلك امتلكت الكثير من الثقة بحصولي على إرث مناعي قوي. لا زلت أنظر إلى المصابة اسنانهم بإشفاق قبل أن يتمرد عليَّ ضرسي!..
أن تتعاطف مع المتألمين من حولك، أمر، وأن تكون أنت المصاب، مأساة مختلفة. ربما تخففت من بعض الصدمة حين أخبرني الطبيب- لاحقاً- بأن العصب كاد أن يموت من تلقاء نفسه نتيجة اهمالي، إلا أن ذلك لم يشفع للضرس المحشو. أي ضرس هذا الذي يرفض الانصياع لأوامر صاحبه!!..
لعلي كنت بحاجة للمرور بهذه التجربة. على الأقل صار بامكاني التأكد من أن وجع الأسنان لا يطاق فعلا! وليست "العصابة" التي يلفها الموجوع حول رأسه مبالغة درامية!..
لم تنحصر مشاكلي في الضرس "العاق"، فقد كان اختياره للتوقيت مكيدة أخرى جعلتني أجز عليه بغيظ وألم: "الم يدرك أن فيروس كورونا كان قد احتل كوكب الأرض منذ أشهر، ومازال بكامل شهيته، أم أنه تعمد ذلك؟!" تساءلت قبل أن انطلق إلى العيادة مطمئنة نفسي: "لم التشاؤم، على الأغلب أن الفيروس لن يستسيغ مذاقي!"..
لم أستغرب تباعد المرضى دون أن يحاول احداهم فتح باب للحديث أو حتى إعمال حاسبة عقله لإحصاء ما سيجني الطبيب أخر يومه. لا وقت للحسابات أو الحديث، فجلوسك المتربص لا يمنحك وقت لترهات الزمن القديم، فاحتمال تخفي الوحش بين الأجساد المحيطة بك وارد جداً!!..
لم ينحصر الخطر في صالة الإستقبال، فقد جلس الطبيب ساهماً خلف مكتبه قبل أن يتنبه لوجودي. يبدو أن الأطباء غيروا من نوعية قماش زيهم التقليدي ليصبح أقرب من ثياب رواد الفضاء. هل كان يتمكن من الرؤية الصحيحة خلال الكمامة التي تكاد تغطي عينيه؟!..
في حقيقة الأمر لم أكن مهتمة لمدى إبصار الطبيب حتى لو أخطأ في الضرس المصاب، فقد انصبت هواجسي في خلوه من الفيروس أو العكس!! لم لا؟! ابدى كورونا ولعه بالاطباء منذ أيامه الأولى!..
لست- في العادة- من النوع الذي يحمل سرعة بديهة أو ملكة التفكير السريع، إلا أنها كانت من المرات النادرة التي تمكن فيها عقلي من تدبير خطة وتنفيذها على الفور؛كان على الطبيب اجتياز اختبار السلامة الذي قمت به، وقد تجاوزه بنجاح حين قفز مبتعداً عني بعد سعالي الشديد!..
شعرت بارتياح لئيم للقلق الذي أصابه ولاصابعه المرتبكة حين بدأ بعمله على الضرس "العاق"، قبل أن يحدد موعد زيارة بعيدة نسبياً، وقد اتجه لتعقيم نفسه بالكحول دون أن يتحفظ من وجودي. لا بأس! لا داعي للأخذ بقواعد الاتيكيت في مثل هذا الوقت.
غادرت العيادة لأجد الشارع فارغاً من الحياة. يبدو أن "كورونا" جعلنا أكثر تهذيباً. ضاق صدري قبل أن أتسائل: "اليس هذا ما كنت أطمح له بعد شكواي المستمرة من الضوضاء المزعجة والتلوث؟! لماذا التذمر الآن وقد انصت الشارع- من فرط هدوءه- لتتابع خطواتي!!..
فقدت الأرض لطفها القديم منذ اجتياح الفيروس للعالم. كثيراً ما تشعر بأنها تنفذ انتقامها من البشر. انتقام مستحق لا أحد ينكر ذلك، إلا أنه اقسى مما كنا قد نتصوره يوماً!..
جميعنا يخشى الموت، وإن ادعى أحدنا جاهزيته له، إلا أن شعورك الدائم بتربصه أمسى أشد رهبة، وكيف لا، ونحن نرى الأرض بين الفينة والأخرى ترفع سجادتها من تحت اقدامنا بضعة أمتار، قبل أن تلقي بنفسها مجدداً نافضة ايانا عنها، إلا تدرك أنها بذلك تستعيدنا إلى باطنها مجدداً؟!..
ربما كان ذلك مسعاها، فالإنسان أكثر سلاماً حين تجف منه الحياة.
من الصعب أن تشعر بالأمان حين تدرك بأنك خصم محتمل لأرض تحيا عليها!..
أعتقد بأن تمسكنا بحياة مكتظة بالكراهية والحرب والمرض، لا يدل على رغبة في الاستمرار بقدر ما هو تسليم بالأمر الواقع حتى يحين موعد ناموس التغيير، أيا كان شكله ونوعه!..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني