لم تختلف ساحة القرية عن قرى أخرى، إلا من جلافة عابريها، ومن القلق الذي ينتابها للوجوه غير المألوفة، لذلك كان من الطبيعي، ذلك النهار، أن يحاط غرباء بالريبة، خاصة مع تجاهلهم منازل عِلِيّة القوم، وأتجاههم مباشرة نحو باب متهالك لم يطرق منذ زمن!..
"غرباء في منتهى الجمال، في منزل نبي الله لوط!"..!! كان ذلك هو الخبر السار في قرية كانت ترتكب الفواحش ويشتهر قومها بـ"إتيان الرجال شهوة دون النساء"..!!
لم يكن الفتية، الذين أخذوا ينشرون الخبر في أرجاء القرية، هو المستهجن الوحيد. فقد بدى الاستنكار على ملامح المرأة التي استقبلتهم على الباب: "من هؤلاء، وما الذي يبغون من لوط؟! هل يعقل أن الهراء الذي مازال يردده وصل اليهم؟!"..
أطلق القرآن على قوم لوط أقسى عبارات الوصف، فهم: المجرمون؛ والذين يأتون بفاحشة لم يسبقها إليهم أحد من قبل؛ مسرفون، ظالمون، مستكبرون..!! فقد كانت "قرية لوط"، القرية العادية التي فعلت الخبائث، وقطعت السبيل، وأتت المنكر في كل نادٍ ومستقر لها..!! حتى أن المرء يتسائل عن منكر عافته- قد يكون شفيعاً لها- فلا يجد..!!
رغم ذلك، حاول سيدنا إبراهيم عليه السلام، الجدال فيهم، وتأجيل عذابهم لعلهم يهتدون. فقد عادت قرى عديدة لرشدها بعد منحها فرص جديدة، لكن الله سبحانه وتعالى كان حازماً في قراره أمام تلك القرية..
مهما اختلفت المشارب والآراء، مازال الظلم يحمل تعريفات متشابهة، إلا من اختلافات نسبية تعتمد على البيئة أو الثقافة، حتى قلبت قرية لوط تلك التعريفات رأساً على عقب بإنشاءها تعريفاً خاصاً بها. تجد ذلك واضحاً من خلال حكمها الجائر على نبيها: "قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ"- سورة الشعراء
فرق هائل بين أن تكون فاسداً، تحاول أن تخفي فسادك على المجتمع، وبين أن تكون مجاهرا بفسادك على الملأ، بل وتقضي جُلّ عمرك لتطبيع هذا الفساد مع من حولك، محارباً الاستقامة بذات الوقت: "فَمَا كَانَ جَوَاب قَوْمه إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آل لُوط مِنْ قَرْيَتكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاس يَتَطَهَّرُونَ"- سورة النمل
على ما يبدو، أن "قرية لوط" كانت الأولى في شرعنة الظلم، والأنحراف، وفرضهما كقانون!!..
لم تسعى قرية لوط إلى "عولمة" قانونها بملاحقة زوار نبيها، إلا أنها اضطرت إلى ذلك أمام الغرباء! فليس من الجيد أن يسمح نظام فاسد باظهار ضعفه عبر "تطّهُر" أحد أفراده!! ويمكننا القول بأن الهدنة التي مُنحت للوط، لم تكن موجهة للغرباء، بقدر ما كانت آخر الفرص المتاحة لتخليه عن مبادئه!..
لنا أن نتفهم الأسباب التي دعت قوم لوط إلى استخدام التهديد والوعيد؛ غير أن انحياز "إمرأة" لوط التام لتلك القوانين كان هو المستغرب!! فلم تكن هذه "المرأة" (كما وصفها القران بهذا الوصف دون أن يذكر لها أسم حتى) بالشابة الطموحة لتستفيد عملياً من مفاسد قومها أو تطمح لبعضها. وبالتالي كان يفترض بعجوز- أقرب لآخرة يدعو إليها زوجها- أن تراهن على إيمان مريح..، فلماذا اختارت مساندة قريتها عن الوقوف في صف زوجها؟!..
للفساد نكهة خاصة؛ متعة تجذب الكثير. مازال الفساد و"المتعة اللحظية"، تُحَجِّم من قدر منافسيها، وإن كان اليقين هو ذلك المنافس، فمازال مؤجل المكاسب. وعلى الأغلب أن امرأة لوط كانت من ضمن تلك الجماهير، لولا قيد زواجها!..
أغلب الظن أن إمرأة لوط، كانت تكره زوجها (الطاهر) في قرية ديدنها الفساد والانحراف. وكيف لا، وقد أجبرها على إلتزام الفضيلة لسنوات طويلة من عمرها؟! هل أخفت مشاعرها طيلة تلك السنين، أم نزعت عنها رداء الورع بعد حين؟! لا أعتقد أن دور امرأة "تّزمل" زوجها حين تغلبه الحيرة، كان يليق بها!! ربما اختارت صبّ المياه القذرة على رأسه، أو وجدت في السخرية منه ما يشفي غليلها!!..
لم تبالي المرأة بالعجز، وقلة الحيلة، اللّذين بديا على لوط. فنامت، وقريتها، تلك الليلة دون أن تدرك بأن "غرباء" الصباح كانوا آخر زوار سيطرقون بابها، ليغادر نبيّ الله مع وبقية أهله دون زوجته، تلك القرية الظالمة، دون أن يلتفت إلى الخلف، كما أمره ربه، وقد كان يعلم في قراره نفسه بأنه لم يعد يملك شيئاً في قرية حق عليها العذاب الإلهي عبر زواره الغرباء، الذين لم يكونوا سوى رُسل ربه من الملائكة!!
لم تكن إمرأة لوط قد أرتكبت الفواحش مع قومها، إلا أن روحها كانت قد تلوثت بالفعل، ولم تعد تختلف عن قومها في شيء. فكما جاهدوا في نشر الفساد وقوننته، لم تبخل هي على زوجها بطاقة سلبية أفسدت أيامه، لتستثنى من أهل بيته الناجيين معه، وتنال ذات النصيب من العذاب الذي استحقه قومها، قال تعالى: "فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ"- سورة الأعراف
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني