ليس من المستغرب أن تتعلق إمرأة بطفل ألقاه القدر على بابها. أراها تتوسل وهي تحتضن الصغير بلهفة لعلها تحميه من نظرات الريبة التي أخذ فرعون يرمقه بها قبل أن تتوسله مجدداً: "وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا "..
مازلنا أمام موقف إنساني يتشارك الغالبية مشاعرهم تجاهه، فكيف حين يتميز ذلك الطفل بصناعة ومحبة إلهية أجبرت فرعون بطغيانه على الرضوخ لرغبة زوجته التي سارعت في طلب المرضعات للصغير..
لم تكن سيدة القصر لتشك بالفتاة التي عرضت عليهم مرضعة تثق بالتزامها: "فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُون". فمازالت بحاجة الى حل سريع لمشكلتها خاصة بعد رفض الصغير المرضعات، على الرغم من صرخاته الجائعة قبل أن يستقر على صدر المرضعة المشار إليها..
تشعر المرأة أحيانا بالعبء نتيجة تدفق احاسيسها بالهشاشة التي تجعلها قابلة للانكسار بين الحين والآخر، إلا أنها- على الأغلب- لن تتنازل عن ذلك الضعف مقابل الحدس العالي الذي طالما كان رفيقاً له..
أكاد أجزم بأن "الملكة" كانت قد شعرت بأن المرضعة القادمة من بني إسرائيل هي الأم الحقيقية للصغير الذي تبنته. إن لم تكن سكينة الرضيع وتدفق الحليب دليلاً كافياً، لا بدّ وأن تقارب الملامح كان قد دلها على ذلك..
مازال فرعون يرى في بني إسرائيل أعدائه، يستضعفهم ويسومهم سوء العذاب، دون أن يوقف بحثه عن غريمه بينهم. أخذت امرأة فرعون تفكر في ذلك وهي تنقل بصرها بين الصغير وأمه، وتحاول إخفاء المعركة الدائرة في صدرها..
لا بد وأنها عادت بالاحداث الدرامية الاخيرة لنقطة البدء، تفاصيل الكابوس الذي أرق نوم زوجها، وربما لما قبلها من ظلم قام به زوجها ضد بني إسرائيل وغيرهم، قبل أن تدير العجلة مرة أخرى للأمام: "هناك أمر جلل يُعد!!"، انبأها حدسها، وقد يكون فيه نهاية مملكة زوجها وحكمه الذي سيمسها هي أيضا بشكل أو بآخر!!..
طالما تساءلت عن الأسباب التي حدت بزوجة فرعون إخفاء ما يحدث تحت سقف قصرها..! الم تخشى زوال مملكتها؟!.
لن تجد امرأة لا تحب القصور. طالما كان التاج ولقب الأميرة أو الملكة حلم طفولة أي فتاة، وقد أدركت زوجة فرعون وضعها ومكانتها جيداً منذ خطواتها الأولى في قصر زوجها: السيدة الأولى، وزوجة حاكم البلاد الأقوى على مر التاريخ، إلا أن تحقيق حلم طفولتها، الذي طالما حسدتها النساء عليه، لم يجعلها تتغاضى عن قسوة قلب زوجها والإستبداد الذي استمرأه. أي يأس شعرت به حين اختلفت قوانين زوجها عن قوانين المملكة التي تمنتها لنفسها!..
يبقى الظلم ظلماً، حتى مع محاولة تزيينه بالقصور وتغليفه بالقوة التي قد تُمنح لاصحابه!!..
يرى البعض أن المستضعفين هم الأسهل انقياداً لفكرة وجود حياة أخرى، بحثاً عن عداله لم يحصلوا عليها. ربما وجدوا أن الزاهد في الدنيا ليس سوى عاجز أخفى قلة حيلته بالتزامه بالأوامر الإلهية. قد يكون في ذلك جزء من الحقيقة، فالإيمان درجات، أولى خطواته الاستسلام، إلا أن تلك الدرجات لا تتوقف على المحرومين، فقد تكون "الجنة" حلم من لم تلبي الحياة طموحاته رغم وفرة ما اعطت!..
لم تكن مخاطرة زوجة فرعون، باخفاء ما يدور تحت قصره، سوى صرخة صامتة ضد ظلمه، دون أن تتخلى عن أحلام طفولتها، بدليل دعوتها استبدال قصر فرعون بآخر، سيكون بالتأكيد أكثر فخامة وعظمة مع ملائمته لقوانين عادلة تنشدها، طالما تتغير دعواتنا وامانينا بتغير طموحاتنا، قال تعالى: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"..
"دون اليقين"، تبقى الروح مجتزأة ينقصها الأهم، كثيرون من لم تبخل عليهم الحياة، إلا أنهم لم يجدوا في عطاءها ما يلبي احتياجاتهم..
على الأغلب أنهم يملكون من الصبر والتجلد أكثر من غيرهم، لذلك لن يكون تأجيل متعهم، مقابل ملء ارواحهم باليقين، بالأمر الصعب أو العسير عليهم..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني