طالما عانت "الإمامة" من مشكلة في "الهوية"، مازالت تدعي الغيرة الوطنية ومحاربة الخارج، بينما تجاهر باصطفاء سلالتها وتميزها، رافضة الإندماج في مجتمع ترى أن تزعمه حق "مقدس" لا يجوز التنازل عنه!..
معادلة فاقدة للمنطق، تنتج على الأغلب واقع غير سوي!!
لم تمثل "الهوية" معضلة بالنسبة "للمنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول"، على الرغم من اختلاف النسابة في تحديد أصله.. فمنهم من ينسبه إلى قبيلة "الأزد اليمنية" التي استوطنت شمال الجزيرة وبلاد الشام قبل الإسلام، ومنهم من يراه تركماني الأصل.
كغالبية الولاة القادمين من مركز بعيد، طمع المنصور بإحتكار أرض صعبة المراس خارج إطار الحملات الأيوبية التي جاء ضمنها، فقرر ببساطة الإستيلاء عليها. إلا أن رغبته الشديدة في حكم اليمن لم تمنعه من التفكير السوي. يدرك- كدبلوماسي مخضرم- أن إستخدام القوة قد تمنحه ما يريد بعض الوقت، إلا أنها لن تضمن استمرارية دولة يريد انشاءها، فتجنب ما قد يوقعه في الأخطاء بقرار حازم "بالانتماء"!!..
يُلزمك "الإنتماء" بإنبات جذور صلبة لك، ابداء الإهتمام، البحث عن أفضل الطرق للحفاظ على ما تنتمي إليه واعلاء شأنه.. وهذا ما قام به المنصور في رحلة بحثه الحثيثة عن عاصمة مناسبة لحكمه. لذلك لم تكن أي أرض لترضيه، بل سعى لإيجاد موضع استراتيجي سيمنحه تمركزا واسع المدى لأراضي دولته، ويضمن له في ذات الوقت حصوله السريع على الموارد ومصادر الغذاء. لا أعتقد أن المنصور أدرج "الحصون"، التي كانت تفضلها الإمامة، ضمن مقارنته. فغالباً ما تورث الأسوار الفزع وتقيد الحركة.
ربما أخذت منه المفاضلة بين "تعز" و "زبيد" بعض الوقت، قبل أن يستقر على الأولى، فلم تكن الموانىء، أو سهول تهامة بثروتها الحيوانية، بعيدة عنه..
في البدء، كان إظهار القوة ضرورياً، ولم يمضِ الوقت بالمنصور حتى سيطر على أكبر مساحة ممكنة له من اليمن، مبتلعاً- بكل سهولة- المناطق التي كانت توزع انتماءاتها على الأئمة الهاربين فوق رؤوس الجبال، حتى بلغت حدود دولته، أحياناً، كامل الجزيرة العربية، إلا أن حكمه- وأولاده من بعده- لم يقتصر على استخدام العنف، فقد تميز حكم الدولة الرسولية منذ أيامها الأولى بالانجازات المختلفة في كافة الميادين.
شملت مشاريع الدولة الرسولية الطب والتعليم والزراعة والتعدين، بالإضافة إلى شق الطرق والآبار، دون أن تنسى التجارة والصناعة، ولم تحتكر بأفرادها الأرباح المباشرة لتلك التنمية، قبل أن تمس حياة اليمني مباشرة، ويستفيد منها. الأمر الذي ربما استغربه، فلم تكن حياته من قبل تعني إلا مقدار "الجزية" المقرر عليه دفعها!..
فقد شرع فقة "الإمامة"، باتاحة رفع السلاح لمن يرى في نفسه الأحقية، الإخلال بالنظام والانقلاب عليه، لتتحول "الحماية الشخصية" لأي "إمام" أولوية وهدف رئيسي، إن لم يكن الوحيد، سواء كان عبر بناء المزيد من الحصون، أم بتجديد أساليب سلب الأموال. فمازال "ذو البيعة" يتأرجح بين خشيته من إنقلاب "طامع" جديد، أو ثورة غاضبة من أصحاب الأرض!.
طالما كان إغلاق المدارس، النتيجة الحتمية لفرض الإمامة سيطرتها على منطقة ما. فقد كان العلم ولازال هاجسها الأول. على عكس ما قام به الرسوليون، الذين كان منهم العالم والشاعر وصاحب الرأي والمؤلف، ولم تنحصر علومهم في"كيفية إثبات نقاء سلالة البطنين!"، بل شملت العديد من العلوم المختلفة، حتى عد كتاب "المعتمد في الطب" للملك الأشرف الرسولي معجزة في ذلك العصر.
تدرك العقول النافذة، أن الدولة لم تكن تمثل سوى جابي أموال لمحيط حُرم من تلقي العلم. فلن يبالي لسقوط دولته أو بقاءها، على عكس المجتمع المستنير الذي يسعى أفراده لدعم الكيان الذي يجمعهم. لذلك تسابق أمراء بني رسول على بناء المدارس الدينية والعلمية، وليست مدرسة "المظفرية" أو "الأشرفية" سوى نموذج من عشرات المدارس التي تمت بناءها في تلك الفترة.
مازالت الدولة تجزل العطاء للعلماء، حتى أصبحت اليمن منارة ذلك العصر وقِبلة علماؤه الذين قرروا الإستقرار فيها، كأبن حجر العسقلاني، والمؤرخ الفاسي، والفيروز أبادي صاحب "القاموس المحيط" الذي لا يزال قبره ماثلاً حتى اليوم في مدينة زبيد..
يمكننا القول بأن اليمني، وعبر مئات السنين من جثوم "الإمامة" على أرضه، كان قد استبدل مشاعره السوية، التي منحت له إبان الدول اليمنية القديمة، بهراء "الأوامر الإلهية" التي راحت "الإمامة" تسوق لها حتى تجعله مواطن من الدرجة الثانية. ربما وجد في انضمامه لجيوش الخلافات الإسلامية حلا لذلك الاضطراب، خاصة مع ترحيب قادة تلك الجيوش بالجندي اليمني ذو السمعة الطيبة. فافراغ الطاقة البشرية من أرض ترى في نفسها مجداً سالفاً سيكون مناسباً لكبح جماحها مستقبلاً.
لعل تلك القوة البشرية مازالت حتى اليوم تمثل جموحاً للبعض يجب تحجيمه!
إلا أن الدولة الرسولية أعادت لليمني المكانة التي يستحقها، باصرارها على تكرار فروض ولائها لأرض اليمن، سواء بكسب ود القبائل ومحاولة مصاهرتها، أم عبر عدالة منح الإمتيازات لكافة أبناء الأرض دون ان تميز بينهم وبين أمراء بني رسول، ليشكل ذلك الولاء الجمعي أقوى جيوش المنطقة في ذلك الوقت.
لا يبني "الإنتماء" دولة وحسب، بل يعكس لها صورة لائقة بين الأمم. فها هم مسلمي الصين يشكون للملك المظفر التعسف والاضطهاد الذي يلاقونه ضد تأديتهم شعائرهم الدينية، وقد وجدوا في صيت دولته القوية ما يحميهم، ليجد المظفر أن تلك الشكوى تعنيه بحكم "انتماءه" للدين الإسلامي، فقام بإرسال مبعوثه لحاكم الصين الذي استجاب لمطالب الملك القوي دون تردد..
انصافاً للتاريخ، لم تغلق الإمامة الأبواب على نفسها دائماً، حتى حال استغنائها عن استقدام مقاتلين ضد أصحاب الأرض، مازالت تتخابر مع الغريب وتمد يدها لأي مستعمر، في سبيل إسقاط رفضهم لها!..
يمكننا إعتبار الدولة الرسولية بسنواتها التي امتدت ٢٣٢ عاماً، أقوى الدول اليمنية واطولها حكماً منذ تلاشي الدولة الحميرية، قبل أن تتكالب عليها شروط الإنهيار التقليدية، والتي شملت بالطبع تربص الإئمة وثوراتهم المتعددة، لكنها تركت نموذجاً "لدولة سوية"، جاهدت "الإمامة" لمحوه وعدم تكراره!..
فرق هائل بين مشاعر "الانتماء"، التي تحرك في المرء واجب دعم منظومة أو فكرة أو كيان والالتزام بحمايتها، وبين "حب التملك" الذي يصنفه علماء النفس بالمرض النفسي، الذي يرتبط على الأغلب بانفصام الشخصية، أو الهلوسات والاضطرابات الوهمية، والذي جعل من الإمامة، ومنتموها، يقاتلون من أجل ابقاء اليمن كياناً ضعيفاً، يرجون هلاكه على أن يستقل بنفسه ويكون لسواهم..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني