بلغ صيت أبو الحسن الهمداني الآفاق، وتحول في "مكة" من طالب علم إلى "علّامة" مرموق يسعى من سبقه من علماء لاستشارته والاستزادة منه، انشغل بمناقشة رسائل أرسطو وحقق فيها وقد ركن إلى ثبات خرائط اليمن كما كانت الأخبار تتوارد إليه، ليعود إلى صعدة بعد سبع سنوات ويدرك أن ثبات يقينه "بالجاذبية الأرضية" التي كان أول من تحدث عنها، لا يماثل أرض وطنه الموشك على الانزلاق.
أخذ الهمداني يراقب ما حوله وقد تأكد له بأن القناعة التي يدعيها "الناصر ابن الرسي" بحكم نجران وعسير وولاء قبيلة همدان لم يكن سوى ذراً للرماد، وحماية لمشروع "الإمامة" طويل المدى الذي أخذ يستكمل بناءه، ولن يضيره وغيره من الأئمة الانتظار حتى خلق تربة خصبة تصلح لتنفيذ طموحاتهم.
"لن تسيطر على شعب حتى تفرض نفسك على معتقداته وتطمس ميراثه ما أمكنك!"، كانت تلك ولا زالت القاعدة الأولى للإمامة، لذلك أرسل الناصر أتباعه إلى كافة أنحاء اليمن بحجة نشر العلم الذي اقتصر على التعاليم المناسبة لا هواء الإمامة والمبالغة في تمجيد آل البيت حتى التقديس، ولم يكتفي بذلك، فمازال دعاته يعمدون إلى تشويه كل ما يرتبط بالهوية اليمنية وميراث الأجداد "الكفار الجاحدين"، في سبيل التخلص من إرثهم الثقيل، وتقرباً "لرب" أعتمد الإمامة وسيطاً.
استمر الناصر كوالده بتفضيل أقاربه ومقاتليه القادمين من بلاد الفرس حتى تمكنوا من مفاصل القضاء والحكم على كافة مناطق حكمه حاجباً ثقته عن اليمني، الذي لم يلقى انصافاً أمام مظالم غُض البصر عنها، ليتساءل أن كانت بعيدة عن أوامر "الإمام" المباشرة.
لم يكن الحسن الهمداني أول من استشعر اختلال الموازين أثر التغييرات التي أخذت تجري على قدم وساق، إلا أن مكانته العلمية والاجتماعية منحته تأثيراً على من حوله، واخذت غلبته في السجالات التي دارت بينه وبين دعاة الأئمة صدى واسعاً.
ومازالت الانتقادات تلاحق الهمداني، وترى أنه خاض معركة لم يكن لمثله أن يخوضها، دون أن تسقط معطيات صراعه على أبيات شعره أو حتى تجردها من قوانين الوقت، على الرغم من حقيقة اجترار اليمني لذات المأساة حتى يومنا الحالي، لم يهجو الهمداني سلالة بعينها، ولم يميز عرق عن آخر - راضياً مختارا -، بل أرغم على خوض حرب قاسية أمام عصابة من الغزاة لا تبغي سلب أرضه وحسب، بل إجباره على العمل فيها اجيراً.
في العادة، لا تكترث "الإمامة" للمعارضين، لا بأس لديها في تجاهلهم حتى يسكن غبار انتقاداتهم، إلا أن "دامغة الهمداني" لم تكن لتثير الغبار وحسب:
الا يا دار لولا تنطقينا
فإنا سائلون ومخبرونا
بما قد غالنا من بعد هند
وماذا من هواها قد لقينا
مشاركة الوجع أشد ما يوحد الصفوف، وتنفي "استدعاء حمية" كما يتهم البعض، إلا أن ذلك لم يمنع الإمامة من اتخاذ قرارها بإخراس الرجل الذي أخذت الجموع تلتف حوله، وحيث أن الناصر لم يكن ليتفوق على الهمداني بالحجة أمر بسجنه دون أن يدرك تبعات فعله حتى هبت قبيلة همدان دفاعاً عن ابنها، ليغادر "الهمداني الحر" صعدة، ويتجه نحو مسقط رأسه وقد حمل على عاتقه تنبيه اليعفريين بالخطر المحيق بهم، قبل أن يتفاجأ بالردود الباردة والمتهاونة بذلك الصراع.
لا يمكننا وصف "أسعد اليعفري" بالساذج الذي قد تنطلي عليه ألاعيب الناصر، إلا أن السياسة تجبر أصحابها على المفاضلة بين ما يتاح من خيارات، وكما يدرك "حاكم صنعاء" مدى القوة التي يبدو عليها أمام ناظريه، يدرك أيضاً أن ميراث هزيمته على القرامطة تركت فيه هواجس انقضاض نسخة جديدة من "أبن الفضل".
لم يكن اليعفري ليسمح بمغامرة جديدة أو يركن على ولاء غير محدود أمام سجل الاغتيالات التي وصمت تاريخ عائلته القريب، ففضل تأجيل حرب محتملة مع "إمامة تحبو" حتى ينتهي من تثبيت حكمه في مذيخرة، وبين القبائل المتذمرة من كلفة ولاءه للخلافة العباسية.
ضجيج لم يكن ينقصه سوى اتهامات الناصر للهمداني بالتعرض "للنبي" وللدين الإسلامي، التهمة المُعدة سلفاً من قبل "الإمامة" نحو كافة معارضيها.
لا بد أن اليعفري وقف طويلاً أمام الرسائل المحرضة ضد الهمداني وهو مدرك تماماً لبراءته، إلا أن استمرار الحرب الكلامية بين "العدنانيين والقحطانيين" لن تبقى شفهية للأبد، خاصة مع انضمام "الأبناء" لصفوف الطبرستانبين وقد وجدوا فيهم صلة نسب ستنصرهم بعد رفضهم الاندماج بين أهل اليمن.
لذلك كان سجن الهمداني الخيار الأنسب للأمير اليعفري عن فتح جبهة حرب "عرقية، دينية" ستستنزف ما تبقي له من قوة!، لم تكن الإمامة عبر تاريخها لتجد أفضل من "عدو" يستهين بها ويرى أن درء الإشكالات القريبة منه أكثر أهمية من الانشغال بخطرها.
استمر الهمداني في سجنه بالقدر الذي وجده أمير صنعاء مناسباً لإخماد الفتنة، قبل أن يفرج عنه ويطلب منه العفو ونسيان ما حدث، إلا أن الهمداني ابى أن يبقى في صنعاء واتجه نحو ريدة (بلاد اخواله).
يرى الكثير من المؤرخين في اعتزال الهمداني شعورا بالندم تجاه خوضه معارك سياسية بعيدة عن قدره الذي كتب له، أو ربما دلت على خيبة وغضب تجاه أسعد اليعفري، إلا أن أبيات الرثاء التي ألقاها شاعرنا على الأمير بعد وفاته كانت أرق من أن تحمل لوماً وان لمحت عتاب قاسي اختص به نفسه نتيجة غفلته عن خطر "تضارب رؤى الاخوة"، الذي لم يكلف الإمامة سوى بعض الدسائس، إلا أن ذلك لم يكن كافيا ليشعر الرجل بالهزيمة، فها هو يتقوقع على نفسه في فصل جديد من فصول معركته.
إن لم يستشعر اليعفري خطر الإمامة سيأتي من يدركها يوما، ولا ينبغي أن يواجهها بلا أسلحة، "من قال بعدم نجاعة سلاح الحبر؟!" قالها العالم الجليل وهو يوثق على الاوراق ما حمله من علم، ويغرس بين ذلك العلم جذور اليمني أمام محاولة الإمامة المستميتة لنزعها عنه.
ومنها "الجوهرتين العتيقتين" في الكيمياء، "سرائر الحكمة"، "أخبار الاوفياء"، " كتاب الإبل"، كتاب "اسماء الشهور والأيام"، ومخطوطات كثيرة، أهمها "صفة جزيرة العرب، والاكليل"، ربما لا ترجع أهمية "صفة جزيرة العرب" إلى ذكره كروية الأرض ورسم خطوط الطول والعرض فيه وحسب، بل لتوثيقه خريطة اليمن والقبائل التي عاشت عليها في معرض شرحه لجغرافية الجزيرة العربية، كما وضع في "الاكليل" خارطة مفصلة لانساب القبائل اليمنية سواء من خلال ما نقله ممن سبقه من علماء، أو لقدرته على قراءة الخط المسند.
يبدو أن التاريخ لا يكتب من خلال المنتصرين كما يقال، فقد يكون الأقل قوة هو الأشد حاجة للتدوين خاصة وقد أدرك أن فصول معركته لم تنتهي بعد وسيتطلب النصر فيها سنوات اطول من عمره، إلا أن ما أراده الهمداني وصل إلينا منقوصاً، فكما اختفى كل أثر لقبره اختفت الكثير من كلماته وكتبه.
لعل ارفف المكاتب لا تهتم بمعايير الحقيقة بقدر ما تحمل ميراث من لم يضع سلاحه يوماً ولم يركن للسلم، ولم تضع الإمامة أسلحتها أمام الهمداني مطلقاً.
حتى بعد مرور مئات السنين مازال يخيفهم ويشعرهم بالضعف، وليس اختفاء "نسخ الاكليل" من إحدى مطابع "بيروت" في سبعينيات القرن الماضي، سوى استكمالاً لحالة تأهب تثقل كواهلهم، فمعركة الإمامة ضد الحسن ابن احمد ابن يعقوب الهمداني مازالت مستمرة وإن تغافل احفاده حيناً عنها، سجال لم يتوقف، لا هي تبغي الانصياع لقوانين الأرض ومنطقها ولم يقبل اليمني بالجور الذي تريد فرضه عليه.
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني