لا ينسى الإنسان اليوم الذي شعر فيه أن الحياة تغيرت جذريا. أو حدثًا نقله لحياة أخرى. كيف وإذا كان ذلك اليوم داميًا كما لم تشهده أيام عمره السابقة.
18 مارس 2011، هو ذلك اليوم المشهود لمعظم الشباب.
لم تكن أجهزة الهواتف قد انتشرت بهذا الشكل، وكان أبي قد أعطاني جهازه الصيني كي يسألني عن حالي وحال الدراسة كلما توفرت الفرصة، ولم يدر في خلدي أو خلد أبي أن تتجه المهاتفات للسؤال عن الحياة..
قبل عصر الجمعة 18 مارس 2011، تلقيت مهاتفة من الأمين الشرعي للبلاد، كان أبي عنده، أول ما ضغطت على زر المجاوبة سألني الأمين الشرعي إن كنت أنا أنا، ثم سألني عن حالي، قالوا بأني أصبت، المندوب شتم من نشر رسالة إصابتي، أبي لم يصدق، كلمته وأقسمت أنني بخير.
كنت مع صديقي محمد الجرادي، على جادة شارع الساحة، أمام بوفية عصرية مروعين. الشعارات التهكمية لشباب الثورة تبعثرت حول الخيام، اللواصق الثورية والشعار الجمهوري على طربال إلى جوار البوفية وقد جرف الموج البشري الباعة المتجولين للذهاب إلى هناك، حيث أحداث الجدار المستحدث لإيقاف تمدد الثورة، نذهب ونجيء، الموج لا يجرف الجميع حين يقوم البعض بدور المنقذ أو برغبة الصدفات..
كنا الصدفات التي تذهب مع الموج، أو تعود فتبقى.
قالوا بأنني لست بخير، قال من أراد الاطمئنان عليّ بأن هناك خضلة في صوتي ورعشة متقطعة.
"أنا بخير.. إنهم.. إنهم يمرون من أمامي".
كان المسعفون يمرون من الشارع وقد انفتح الموج ليسهل لهم الطريق إلى المستشفى الميداني، أرى أصحابي وغيرهم محمولين، وينزفون، الأدخنة ترتفع من خلف الجدار المستحدث، أصوات القناصة مازالت تنطلق إلى رقاب الثوار، الرؤوس، الصدور. شباب ينطلقون لهدم الجدار وإخماد الحريق، الثورة لا يوقفها جدار، الشباب ينطلقون لإيقاف رغبات القناصين وإيقاف جشع شهوتهم بالدم..
أصدقاء من الخيمة ارتقوا شهداء، رجال ممن يعملون في المهنة التي تجذبني إليها استشهدوا..
إنه اليوم الأول لرؤية دم بتلك الغزارة.. إنه اليوم الأول لترى قناصين على سطح أحد المنازل، إنه أول يوم يسقط فيه إلى جوارك شاب من فوهة قناصة تتمركز في مكان لم تتوقعه..
كنا بلا عشاء، ولا أعتقد أن أحدًا تناول وجبة الغداء في ذلك اليوم.. نبقى على جادة الشارع، أمام الدكاكين، نذهب لرؤية الجدار المهدم، وإلى رؤية الدم المتجمع على الإسفلت.
لعاعة بيضاء من دماغ أحد الشباب في الأرض.. بيضاء مخلوطة بالدم.. ذلك البياض كان رداءا لأحلام الشباب وتطلعاتهم، أهرقه النظام في ذلك اليوم وأبى إلا أن يرى ألوان العلم الوطني بمجزرة..
كان البلطجية قد انتشروا في الحارات والأزقة، قبل إمدادهم بالمزيد من قوات الأمن المركزي والقناصين، كان مكتب الصحيفة التي نتعلم فيها ونسكن فيها، خلف الجدار الذي يمتد من شارع "ساحة التغيير" نفسه، كنا إذا أردنا الذهاب للساحة نمر على تلك الوجوه المتوحشة المنتشرة في الأزقة، خلعنا لوحة الصحيفة تجنبا لمضايقات البلاطجة، كانت خطة نظام صالح حصر الثوار في شارع ضيق ومنع الثورة من التمدد، ظن المخططون أن الثورة مرتبطة بالمساحة وأن استهداف الأحلام بالرقاب والرؤوس والصدور وتمديدها في الإسفلت سيحد من تمدد الكرامة وإيقاف زحفها..
ما حدث تاليًا، أكد ظنًا وخيب أملًا، امتدت ساحة الثوار قليلًا وتوقفت المساحة، غير أن الثورة لم تتوقف..
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس