لم يشعر "الإمام المنصور عبد الله إبن الحمزة" بالخطر نتيجة سيطرة الايوبيين على اليمن بعد منتصف القرن الخامس الهجري، مازال المحتل يروح ويغدو حتى تنتهي مصالحه أو تتخطى كلفتها ما يمكن تحمله..
"لا بأس إذن من توسع الأرض أو تقلصها مادامت عمامة الإمامة موضوعة على رأسه!"..
بديهية استقاها الحمزة وغيره من الطامحين لتلك "العمامة" منذ تاريخ استقرارهم في اليمن، ولم تكن الهدنة مع المحتل سوى تفرغ منه لمواجهة خطر "المطرفية" التي اقتربت من "عمامة الإمامة"، دون أن تدرك تبعات فعلها!
لن تجد الكثير عن المطرفية، فقد كان الحمزة حريصاً على إبادة كافة تراثها الثقافي والفكري، إلا أن القليل الذي وصل إلينا عبر أقلام "محايدة" أكد بأنها فرقة قطعت في العلوم شوطاً طويلاً، لتجد فيها الطبيب ومعلم الفلسفة وعالم الفلك، رفاهية لم يحملها واقع ذلك الوقت القاسي، إلا أنها أثبتت حضورها حتى أقرت للمرأة الحق في تحصيل العلم ليمسي بينها العالمة والمتفقهة في الدين.
ومازالت المطرفية تعمل العقل قبل النقل اخلاصاً لمبادئ "المعتزلة" في عقائدها حتى وقفت أمام حجة "البطنين" وبدأت في تفنيدها والدعوة بما خلصت إليه من عدم وجوب "الانتماء الفاطمي" كشرط أساسي من شروط اختيار الحاكم!
لم يكن ذلك خروج عن الزيدية كما يرى البعض فقد كانت "المطرفية" من أكثر الفرق الزيدية تأييداً لأراء "الهادي" حتى أنها منعت وحرمت الخروج عن "مبادئه"، ربما لم تكن فتواها في المقام الأول سوى سعي مخلص لإصلاح المذهب وحفظه من العيوب، فلم يكن "إعمال العقل" الذي تدعو له ليمرر حجة بذلك الضعف، إلا أن مثل ذلك "الاجتهاد" لم يكن ليرضي أمام قائم أو آخر يرى في نفسه الصلاحية، ولم يعفها لاحقاً من النهاية التي كتبت لها.
التقى "عبدالله بن الحمزة" بالكثير من علماء المطرفية في محاولة منه لمناظرتهم ليخرج بعد تلك المواجهات رغم ما اشتهر عنه من علم وقد تساقطت حججه أمام ما ساق له المطارفة، وعجز أمام ما وضعت له الفرقة من أدلة وبراهين، قبل أن يقرر إنهاء المهزلة التي اخذ العامة يتداول فصولها بينهم البين.
تذكر بعض المصادر أن أعداد ضحايا الحمزة من فرقة "المطرفية" فاق المائة ألف، لم يرفعوا السلاح ولم يتوقعوا الحرب أمام "الكفر بالإلزام" الحكم الذي لم يقتصره عليهم، بل امتدت ليشمل كافة معارضي فعله، دون أن ينسى توثيق ما قام به بأبيات ركيكة:
لست ابن حمزة إن تركت جماعة
متجمعين بقاعة للمنكر
ولأتركنهم كمثل عجائز
يبكين حول جنازة لم تقبر
ولأروين البيض من أعناقهم
وسنابك الخيل الجياد الضمر
يرى بعض المؤرخين أن تجرأ المطارفة على طرح فكرة أحقية خلافة المسلمين لم تكن لتثير ذلك الجدل لولا تأييد الكثير من "الهواشم" المنتمين للمطارفة، لكن التجاوزات التي وصلت إلى حد إحراق الناس احياء قبل هدم وحرق قراهم ومزارعهم، لم تبرر تطرف ابن الحمزة، فلم تكن المطرفية أو افرادها أول من طرحت ذلك الرأي، فقد سبق ونادى به الكثيرين دون أن يلحقهم ذلك القدر من الأذى، فلماذا نالت المطرفية ما نالت؟!
لا تحمل الأفكار بذاتها خطراً حين تلقى على شعب مورس عليه الاستبداد حتى أعتقد بأنها طريقة العيش الوحيدة، تبقى الأفكار مجرد حروف لا قيمة لها إلا أن تستند على قاعدة قوية تؤكد لذلك الشعب حقه في حياة أفضل وتهيئ له طريقة الحصول عليها، ولن نجد أقصر من المعرفة طريقا لتلك الحياة.
ربما جلس اليمني منبهراً أمام نظرية خلق العناصر الأربع: "الماء، الهواء، التراب، النار"، التي أخذت المطرفية تقول بها قبل أن يقبض على حفنة من التراب ويتحسر على تركه لحقله من أجل القيام بمعارك هنا أو هناك، لم يكن من قبل ليعترض عليها تنفيذاً لأوامر "الدين" حتى لاحت له بعض احتمالات وشكوك "عملية نقل خاطئة" لما قدم له من دين.
لعله نفض عنه ما يراوده ليعود للإنصات مجدداً لمباحث "الإحالة والاستحالة" وقد تذكر ما تناقله الأجداد عن حضارة كانت على هذه الأرض قبل أن تبيد، "ربما لم يفت الوقت بعد وبإمكاني إعادة بناءها من جديد؟!" يتساءل اليمني وقد نبت في قلبه بعض الأمل.
لم تكن تلك الأسئلة أو "المنهج العلمي" الذي استندت عليه المطرفية ليغيب عن "الحمزة" فسارع للقضاء عليه، دون أن يركن إلى حمية قد تثار لدى البعض جراء دراسة الفلسفة، كانت إقامة المذابح أخف وطأة وأكثر أماناً له من السكوت عن إنتشار العلم، فليس من السهل قيادة شعب لن يكتفي بعد عملية تنويره بمناقشة الفتاوى!
أصر "السفاح" على التنكيل بكافة أفراد المطارفة وعلى مدى عشرات السنين، رجالا ونساءاً، دون أن ترضيه عمليات القتل السريعة، فمازال يتلذذ بتعذيب "الجناة" وملاحقة من حاول الفرار منهم، رافضاً رفضاً قاطعاً استتابة البعض ورجوعهم عما كانوا يدعون إليه، ليختتم المجازر بقولته الشهيرة بعد أن ثبت عمامته عليه: "لا فرق بين أعمالنا وأعمال الطغاة إلا بالنية!".
هل كان عبدالله بن الحمزة ليستهين بمحدثيه بمثل هذه العبارة أن لم تتكئ عمامته على جهل قضى عقوداً في تثبيته؟!، لا أعتقد ذلك!
ربما لم تختلف ظروف اليوم عن الأمس، فمازالت المجازر ترتكب في حق هذا الشعب بشكل أو آخر دون أن تبتعد عن منهج عبدالله بن الحمزة "وعمامته"، التي توجب عليها إعادة تجهيل الشعب حتى تتمكن من حكمه، لك أن ترى كيف تمهد لنفسها عبر قنواتها الإعلامية أو عبر الدورات "التجهيلية" التي لم تتوقف منذ اللحظات الأولى للانقلاب، لن تستغرب استقتال الإمامة لفرض سيطرتها على المنشاءات التعليمية وما يطرح عليها، وقد أدركت بأن اغلاقها بات أمرا عسيراً.
"كما أن للعجلة أن تتقدم للأمام بإمكانها العودة للخلف بكل بسر!" يقول الأئمة الجدد في حربهم الجديدة، دون أن يدركوا بأن المراهنة على العودة للوراء لا يعني بالضرورة إيقاف عجلات الزمن عند حقبة مناسبة لها، فكما لبست الإمامة عمامتها على هذه الأرض، لم يغمد اليمني بالمقابل خنجره عنها!
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني