مازال يحدق بعينيه الجاحظتين؛ لم يبدُ عليه الخوف نتيجة الدماء التي سفكت على أرض الساحة، إلا أن ذلك لم يمنع ارتعاشة جوفه..
"كنت أشعر بذلك من قبل"، لعله قال ذلك في نفسه وهو يتذكر دخوله منتصرا إلى صنعاء، وهتافات الفرح وهي تطوقه، دون أن يمنحه ذلك أي شعور بالأمان. فأسوار المدينة الخائنة، التي لم توفِ بعهدها مع والده، مازالت تحيط به..
غادر "أحمد بن يحيى حميد الدين" مدينة صنعاء بعد قرار معاقبتها وتركها مستباحة لرجال القبائل الموالين له، ليتوجه هو للإستقرار في تعز. على الأغلب أن الرجل كان ينوي، مسبقاً، ترك المدينة قبل أن تُعجِل ثورة الدستور- (رحم الله شهدائها)- باتخاذه ذلك القرار. فقد طاف اليمن من قبل قامعاً ثوراته، واكتشف أن الأسوار قد تكون فك محكم إن ثار من يسكن خلفها!!..
كان بإمكانه إختيار "شهارة"- بمحافظة حجة- مقراً لحكمه كما فعل سلفه "المتوكل على الله اسماعيل". وربما ظن مرافقوه أنه سيلقى الأمان هناك في "حجة"، التي قاد من خلالها معارك إستعادة إمامته الضائعة. لكنه لم يكن يسمح لنفسه بالوقوع في فخ "متلازمة شرف الدين" مجدداً، فشهارة، أو حجة بكلها، ليستا سوى أسوارا لا تختلف عن ما يحيط صنعاء!!..
فهم الرجل قواعد اللعبة.. وربما ساهم ميراث والده، بشكل أو آخر، في التخفيف من أعراض تلك المتلازمة؛ أربعة وأربعون عاما من عملية تجهيل متعمدة، وضرب أسوار حديدية على حدود اليمن، أمر لا يستهان به!!..
لعلنا نرتكب خطأ حين نضيف لقب "الإمامة" على ذلك الرجل. وأعتقد أن من الصواب تصنيف "أحمد بن يحيى"، من بين أسلافه، بـ"الملك الأول" الذي تحرر من صنعاء وهجرها إلى مدينة أخرى..
إثنان فقط من يستميت في سبيل صنعاء: عاشقٌ لم ينل حظه فيها؛ وإمام ينشد التحصن خلف أسوارها. ولم يكن أحمد أي منهما..
على ما يبدُ، كان الرجل قارئ جيد للتاريخ. وبناءً على ما قرأه، أختار عاصمته الجديدة. كانت زبيد وتهامة خيارا مناسبا لولا الجرائم التي اقترفها بحق سكانها، لذلك كانت "تعز" الأقرب لمراقبة "مملكته"، ولدعم اقتصاده في الوقت ذاته. فاخضاع السهول والمناطق الخصبة، ستأتي له باليمن خاضعة، بما فيها صنعاء والقبائل المحيطة بها..
إلى ذلك الحد، يمكننا فهم الرجل، حتى نتوقف على إسم التدليل الذي ارتضاه "الملك" لنفسه: "احمد يا جناه"!!..
هناك خطب ما يشوب تلك السلالة!!..أن ينشأ شخص على فكرة: أنه مصطفى دون غيره؛ وأن السماء قدمته على بقية أهل الأرض بسبب جين معين في حمضه النووي.. لهو أمر لا يُنتِج- على الأغلب- سوى شخصية مختلة، فاقدة للمنطق، لا تنظر إلى الأشياء كما يراها الآخرون، معتقدة أن ما يطرح لها من قوانين عقلية سليمة ليس سوى هراء يبغي تخطي سلاسلته الوراثية!..
لم يتخلص الرجل إذن من متلازمة "شرف الدين"..!! كل ما في الأمر أنه استبدل أسوار صنعاء بجدران والده الحديدية. لذلك لم تمضِ سوى سنوات على تنصيبه، حتى ثار اليمني عليه، وتخلص من بقايا حكمه في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962..
بعد ثورة سبتمبر أعتقد اليمني- ساذجاً- أن مشاكله ستنتهي..!! حتى عادت المعارك بين الملكيين والجمهوريين، كراً وفراً، ليرفع الثوار في العام 1967 شعار "الجمهورية أو الموت"، في خضم الحصار الذي ضرب صنعاء سبعون يوماً..
بالطبع كان من المهم أن ينتصر اليمني في تلك الملحمة؛ إلا أن ربط سقوط صنعاء بسقوط الجمهورية، كان "رهانٌ" أثقل كاهل المدينة وأعادها تحت رحمة الإمامة من جديد. فصنعاء ليست اليمن، ولم تقم المدينة- حينها- إلا بإحطة نفسها، خشية رصاصة طائشة أو صاروخ متعمد، بينما هب أبناء اليمن، ومن كافة مناطقه، لتخليصها من ذلك الداء..
هل تعَلّمَ حكام اليمن من ذلك الدرس، وحاولوا تقديم المزيد للمدن التي كانت متلهفة على العطاء بقدر حاجتها لمن يراها، أم أن بعض من متلازمة "شرف الدين" تسربت اليهم؟!
بالطبع، لم تعد المقارنة القديمة مناسبة تماماً لإسقاطها على صنعاء اليوم!. فقد توسعت المدينة فعلياً، وتحولت إلى أهم المدن الاقتصادية في اليمن. لكن المدهش أن الإمامة مازالت ترى فيها ذات الرداء الضيق، رغم تهدله عليها!. وأغلب الظن أنه ذاته الذي سيقضي عليها في نهاية المطاف.
يمكننا، ببعض الدراسة والمقارنة، فهم الطريقة التي تفكر بها الإمامة، سواء في الماضي أم ما جاد به وقتنا الحاضر. ما يثير الدهشة، ويستعصى على الفهم حقاً، هي المتلازمة التي أصابت الشرعية: "متلازمة الفنادق"، التي لم يسلم منها غالبية أفراد الحكومة، المفترض بهم تمثيل الشعب اليمني وجمهوريته!!
فبينما تقاتل الإمامة لتثبيت حكمها في صنعاء، مازالت الشرعية متشبثة بالفنادق المكيفة حتى آخر رمق!!..
وقد بدى واضحاً للعيان، أنها لم تعد تجد في أسوار صنعاء، أو غيرها في مدن اليمن، ما يرضيها أو يناسب طموحها!!..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني