ليست مفارقة غريبة أن يكون "المطهر يحيى شرف الدين"، والملقب بالسفاح هو من استدعى الأتراك لحرب والده "يحيى"، أنها "متلازمة شرف الدين"، الداء الذي يجعل المرء يحارب والده من أجل الدفء الذي تمنحه صنعاء؛ إن لم تكن الأسوار لي لن تكون لغيري!..
استقرت قوات الاحتلال العثماني في اليمن. كانت تعز عاصمة لهم، إلا أن المدينة لم تجد الاهتمام الكافي حتى تترك القبائل المتقاتلة اسلحتها، وتتجه نحو قلب الدولة الاقوى. على خلاف ذلك، كان الاتراك قد اختاروا استنزاف طاقتهم في اليمن الأعلى، وتخلوا عن التزاماتهم للمناطق التي وجدت فيها ضررا أخف من أذى الامامة..
أدرك الاتراك متاخراً أن تمسك الإمامة بصنعاء لا يهدف لتأسيس دولة بقدر اعتمادهم على تحصينات لم يكن لهم أن يستوفوا شروطها، فلن تقبل القبائل استبدال الأئمة بالأغراب على أي حال، ليغادوا اليمن بعد ذلك يجرون خلفهم هزيمة مرة..
أطل النهار على"القاسميين"- الأئمة الأقوى في تلك المرحلة- ليجدوا أنفسهم قد انتقلوا من دور المعارضة المسلحة الذي اعتادوا عليه، الى حكم الدولة بأبسط تعريف ممكن: "مساحة من الأرض يعيش عليها مجموعة من الأفراد يفترض أن تديرهم سلطة لها الحق باستغلال الموارد في سبيل تقديم الخدمات وتوفير الأمن الداخلي والخارجي"..
كيف للإمامة، التي اعتاشت سابقاً على غنائم الحرب والتخفي خلف الحصون، أن تدير مثل تلك الدولة؟!..
كان لدى الأئمة عدة أمثلة لدول ناجحة قامت على أرض اليمن، قد تكون الدولة الرسولية التي استمر حكمها لأكثر من قرنين أبرزها..
مازال الجميع يتذكر كيف رست سفنهم على السواحل اليمنية، ليقع إختيار "توران شاه "- بعد نصح الاطباء- على سفح جبل صبر الخالي إلا من حصن "القاهرة"، دون أن تدخل صنعاء في أي قائمة للمفاضلة عليها ..
قد يكون الأمن الشخصي شرطاً لطول عمر الحاكم، لكن التخفي خلف الحصون لا يبني الدول أو ينشيء حضارات. فهناك الغذاء (الاقتصاد)، الحاجة الأساسية التي يفترض أن تتبادر إلى ذهن أي حاكم يستشعر مسؤوليته؛ أمن لا يشمله ورجاله بقدر ما يشمل أصحاب الأرض كافة. وقد تم اختيار "منطقة تعز" التي تتوسط مرتفعات زراعية خصبة، والمطلة بذات الوقت على أهم سواحل اليمن، لتكون مصدراً لذلك الأمن. ليس ذلك وحسب، فقد كان ميناء عدن الذي أخذ يرسل خراجه للمدينة أربعة مرات في العام على مدى بصر أولئك الحكام، ليبدا العامة بترديد مقولة: "تعز كرسي اليمن وخراجها عدن".
تخففت صنعاء من عبئها خلال فترة حكم بني رسول. لم تعد مطمع لما حولها. كما توقف النزاع والقتال في سبيل التحصن فيها، وقد تقلص كل إمام خلف اسواره الخاصة، يلعق متلازمته بألم متجنباً غضبة الدولة القوية. فهل حاولت الدولة القاسمية أن تقتدي بتلك الدولة أو غيرها التي لم تحجمها اسوار صنعاء، أم أن الداء مازال ملازما لها حتى وقد منحت دولة لم تكن لتحلم بنصفها! ..
كان من المدهش استيعاب أئمة الدولة القاسمية لكافة تفاصيل مظاهر حكم العثمانيين، على الرغم من نقدهم السابق واللاحق له. فلكل مقام مقال، وقد تحقق المقام الجديد، باستلامهم الحكم وإبقائهم على القوانيين الجائرة التي سنها الأتراك من قبلهم! ..
بالرغم من الإستقرار النسبي، والحركة الفكرية التي نشأت في بداية فترة حكم القاسميين، إلا أنك لن تجد لهم أي مشروع يوازي ذلك الإستقرار: لا طرقات، أو تطوير مؤاني وشبكات ري، أو حتى الشكل الابسط لتنمية تحتاجها أي دولة. فلم تكن الإمامة لتتخلص من متلازمتها بتلك السهولة، لن تركن للسلم وتترك أسوار المدينة في سبيل مدن أخرى أكثر انفتاحاً وموارد..
لكن ذلك لم يمنع القاسميين من إبداع صناعة إقتصاد خاص، لم يسبقهم إليه أحد!!..
كانت الإمامة أضيق من أن تخرج عن صنعاء فكيف لها أن ترى ما يحيطها إلا عبر ما برعت به على الدوام: "الفتاوى" واجبة التنفيذ لضمان دخلها وامنها أيضاً، ليس من السهل أن تجد دولة تعتمد على "الفتاوى"، إلا أن القاسميين فعلوها وبجدارة!!. ..
ربما كانت أشهرها تلك الفتوى التي جعلت من اليمن الأسفل مناطق "كفرية"، بسبب إقامة الأتراك "الكفار" عليها. على اعتبار أن البلد الذي تظهر فيه "كلمة الكفر" تصبح كفرية، ولو كان أهلها وسكانها لا يعتقدون الكفر ولا يقولون بمقالة أهله!..
أنه التكفير بالإلزام: تكفير الآخر، وهو لا يعتقد به ولا يقول بأي مقالة فيها كفر أو شبهة له !!..
حولت تلك الفتوى مناطق اليمن الأسفل، بالإضافة إلى يافع وحضرموت من "أرض عشرية" إلى "أرض خراجية"، لتتغذى الصراعات القبلية والمذهبية والمناطقية بين اليمنيين. كانت تلك اهم صناعات الإمامة المتخوفة: التفنن في خلق "عقد الذنب والنقص"، لا بد وأن يشعر بها كل من خالف مذهبها أو وافقه!..
ضمنت تلك النوعية من الفتاوى الخراج، كما دعت أفراد الطبقة الحاكمة من آل القاسم الى الخروج الحذر من صنعاء وتكوين اقطاعيات خاصة بهم، دون السماح بفتح ابواب مدينتهم المحصنة لسواهم. وقد أمسى سكنها منحة بإذن خاص من الأمام: "لا يسكن المدينة إلا من يستحقها!". هكذا قالت المتلازمة، التي مازالت تنظر بعين الريبة الى مناطق الأعداء خارج أسوارها..
بعيدا عن شعور أغلبية الأئمة، بأن كافة ما تنتجه الأرض "الكافرة أو المسلمة" يجب أن يكون من نصيبهم، كان مال الآخر رديف للقوة التي ستغري صاحبها ذات يوم بالانقلاب والثورة عليها، وقد واجهت الدولة القاسمية الكثير من محاولات التمرد التي قمعت بأقصى أنواع التنكيل، لذلك وجب تجنب أي تمرد جديد بإفراغ جيوب اليمنيين عبر "اتاوات" جديدة، على سبيل المثال: ضريبة الصلاة على الشخص الذي يصلي (مطلب الصلاة على المصلي) ، ضريبة التبغ، رسم مائدة الأمير (مطلب سفرة الوالي) ، رسم العيدين، وغيرها..الخ.
مازال الأئمة يشعرون بالقلق، واستخدموا الكثير من أبناء القبائل المؤمنة بمذهبهم لعلهم يزيلون عنهم ذلك القلق والتوجس. لكن ذلك الاستخدام لم يشفع لأبناء القبائل أو يمنحهم بعض من مساواة قد يطالبون بها، مازال رابط الدم هو الشرط الأساسي لقبولك كفرد كامل في دولة الأئمة.
ستجد أن إيراد قبيلة الحداء، في كشوفات مالية لواء ذمار، كان تحت بند "عائدات زكاة الخوارج"!!، على الرغم من أن القبيلة كانت قد اعتنقت مذهب "الدولة"، وقدمت فروض الولاء والطاعة منذ أيام القاسميين الأولى..!!
ربما شعرت القبيلة بالسوء نتيجة تلك المعاملة، لكن ذلك لم يمنعها وغيرها من الانضمام إلى أئمة آل القاسم، الذين رفعوا نداء الجهاد ضد الغزاة مجدداً!!..
من الطبيعي أن تبقى مثل تلك الدولة تحت ظل التهديد والخطر الدائم للغزو. لا تستقيم فكرة بناء دولة وادارتها مع أئمة يحكمهم السقم، لا يجدون قوتهم إلا عبر عملية إضعاف غيرهم، ليتلازم على الأغلب غزو اليمن مع حكم الإمامة لصنعاء ..
مازالت متلازمة "شرف الدين" تقتات من أصحاب ذلك الفكر دون أن تمنحهم يوماً دولة بقدر ما منحتهم سجن اعتادوا النظر من خلف قضبانه..
لكن برغم ما قد تستفزك تلك المتلازمة مازالت هشاشة اليمني أمامها هي الأكثر استفزازا !!
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني