تقول الأسطورة اليونانية إن الغرور أصاب "نرسيس" إبن الإله "كيفيسيا" والحورية "ليريوبي" نتيجة جماله الذي أُشتهر به، لدرجة تجاهله وإعراضه عن كل من يحبه؛ فكان عقاب الآلهة له أن اخذته إلى بحيرة رأى فيها انعكاس صورته ووقع في حبها حتى عجز عن تركها، دون أن يدرك بأنها مجرد صورة حدق فيها دون حراك، حتى فارق الحياة!..
اشتق لفظ النرجسية من تلك الأسطورة. وبعبارات بسيطة يمكننا تعريفها بالاضطراب الذي يصيب صاحبها باعجاب بالذات، مبالغ فيه، لدرجة تجاهله الآخرين، أو حتى مبادلتهم بعضا من مشاعر الحب والإعجاب، ويؤدي به ذلك الإضطراب في النهاية إلى انسلاخه عن المجتمع الذي يعيش فيه، وقضاء بقية حياته وحيداً منعزلاً نافراً من الآخرين ..
هل يحب السلالي نفسه؟! هل يعاني فعلا من نرجسية أجاد اخفائها طويلا؟!
حاولت تفنيد توصيف سيق أمامي بأن النرجسية هي السبب الحقيقي لجرائم الحوثي ونظرته الفوقية لمن حوله.
أعدت الفكرة على نفسي قبل أن استرجع فقرة كنت قد قراتها في سيرة "الهادي يحيى ابن حسين الرسّي"، المحتل الأول، والأب الروحي لمن تلاه من أئمة السلاليين بعد أستقرار حكمه في بعض أجزاء اليمن..
يذكر المؤرخ أن الهادي كان مجتمعا مع بعض أفراد حلقته الضيقة، قبل أن يفضي ببعض ما في نفسه، ويقول:
"والله لولا أني أخاف أن يفسد أمر هذه الأمة لطرحت نفسي معها نهاري كله، وما صلى بهم الصلوات كلها غيري، ولبست أدنى اللباس، وإني لا ألبس الثوب الجيد وابدا على نفسي، والله على ما اقول شهيد. ولربما جلس الناس فأفكر فيهم، فأتمنى أن أكون جالسا معهم، ثم أفكر في عاقبة الأمر، فإذا اني فعلت ذلك لفسد الناس علي، وخلقت عندهم حتى تذهب هيبتي من قلوبهم، ولو ذهبت الهيبة، ذهب الاسلام !!"..
ربما لم يسجل ذلك المؤرخ كل شاردة وواردة في سيرة الهادي، إلا أنه على الأقل تجرأ، ودَوّن ما يهمنا لمعرفة نرجسية تلك السلالة من عدمها!..
كما بدى من سيرة الرسي- التي اختفت من الأسواق مؤخراً- أنه لم يطرح نفسه على الأمة التي يفترض به حكمها. اختفى عنهم وربط، بلا مواربة، بين ظهوره وفساد الأمة؟! ما الذي يجعل ظهور الإمام المتكرر بين رعيته سببا في فساد الأمة؟! لا أعتقد أن وسامة الرجل كانت طاغية، لتقود الى فتنة يفترض وقوعها! أم أنه كان يخشاها نتيجة أقوال أو أفعال كان ليقوم بها!..
ليس ذلك وحسب، فقد امتنع الرجل عن إمامة الصلاة واختار غيره بديلا. على الرغم من أن تقدم الصلاة في ذلك العصر كانت أولى مهام الحاكم، أي حاكم، ظالما كان أم عادلا، ما الذي منع الهادي من ذلك؟! لم يكن ذلك لِعّلة أصابته، فسرديات بطولاته أكدت على قوة جسدية لم يضاهيه بها أحد، إلا أنه كان يخشى عملية اغتيال؟! لم لا؟! في ذلك حجة مقبولة لن تجد من يشكك بها نتيجة أعدائه الكثر. لكن ما تلى تلك الحجة من قول كان بعيدا كل البعد عن شبهة اغتيال أو فتنة قد تتبعها. فقد انبرى الرجل وبكل سذاجة الى تغيير مسار الحديث نحو ما يرتدي من ثياب لا يلبسها العامة من الناس!!..
لم تكن لدور الأزياء ركن مهم في تاريخ الحكام، مسلمين كانوا أم "اعاجم". كما كان يطلق عليهم، إلا من بعض الحالات الخاصة، على سبيل المثال مقارنة ثياب الخليفة "عمر ابن عبد العزيز" قبل استلامه الخلافة وبعدها. والتي دلت على حالة زهد تمسك بها. وعلى العكس من ذلك، ستجد المقارنة ذاتها حال تباين بذخ ازياء الحاكم وما يرتدي شعبه من اسمال، والتي قد تؤخذ كدليل فساد ولامبالاة، وقد تكون "ماري انطوانيت" وحاشيتها مثالا مناسبا وإن كان بعيدا !..
فأين الرسّي مما سبق؟!..
عشق "نرسيس" نفسه، ملامح وجهه، تفاصيلها، لم تشر له مرآة المياه بحاجته لتسريحة جديدة أو لون ثوب يبرز إضاءة وجنتيه، لذلك يمكننا تبرئة الهادي من داء النرجسية. أدرك الرجل حالته بمنتهى الدقة واحتاط لنتائجها، لم يكن كنرسيس، لا جاذبية فيه أو كاريزما قد يحملها "رجال العصابات"، فاختار الغياب حتى لا يكشف من يتبعه نقصا واهتزازا بالثقة فيه، سواء في قول أم فعل. كان الرجل صريحا وهو يحدق في المرايا واعترف بحاجته للزينة، بعض من بهرجة في الألوان قد تنطلي على البعض بعض الوقت، وليس كله!!..
استمر الرسّي، رغم الارتباك الذي بدى على جمله المبعثرة، واضاف شارحا لمريديه عاقبة الجلوس الوخيمة بين الناس، حين قال: "فإذا اني فعلت ذلك لفسد الناس علي، وخلقت عندهم حتى تذهب هيبتي من قلوبهم!". عاد الرجل مجدداً للتحذير من فساد الامة. لن تجد لتلك الإضافة سوى أحد سببين: إما أن الرجل لم يجيد فن الخطابة، كما يدعي أنصاره؛ أو لاخفاء خوفه من انقلاب الناس وثورتهم عليه. وعلى الأغلب كان لاجتماع السببين، لكن القارىء قد يجد أن الأهم فيما قال الرسي كان في ما تلاه من عبارات: "ولو ذهبت الهيبة، ذهب الاسلام!!"..
إنه الاسلام إذن!!
كان الدين منذ البدء الطريق الأسهل لقلوب البسطاء.،الباحثين عن جنة وجدوا بها عوضا مناسبا لحياة بائسة. ولن تجد أكثر من صلة دم "مقدسة" لتربط به أولئك البسطاء. فحين تقراء سيرة الهادي ستجده دائم التذكير لمن حوله بمدى صلته مع النبي: "والله لئن اطعتموني، لافقدتم من رسول الله الا شخصه!"!، وغيرها من العبارات المشابهة..
تكرارك الدائم لاي أمر، لا يجعل من حولك فقط يعتقدون به، بل ستجد أن ذاكرتك هي الآخرى قد خدعت به ورسمت من وحي خيالها صورا تثبتها لنفسك، خاصة حين تكون كذباتك هي سبب بقاء قوتك!..
لكن هل صدق الهادي كذبته؟! وعلى افتراض أنها حقيقة، هل كان مقتنعا تماما بالمنحة الإلهية التي حصل عليها كنتاج، رغم مخالفتها الواضحة للدين القويم الذي يفترض انه يدعو إليه، والذي لن يأخذ الكثير من معارضيه الوقت أو الحجة لنقضه!!..
أي حيرة أوقع الرجل نفسه بها، خاصة بعد أن بدأت مكاسب رحلته تنهال عليه!!..
إلا أن شيئا لم يكن ليقف أمامه، إن كان الإسلام الحقيقي هو العثرة التي تقف بينه وبين مشروعه، لا بأس من صناعة "اسلام خاص" به كما فعل من قبله، وتم له الأمر حتى اقترب من أن يكون نبيا لمريديه. إلا أن الرجل مازال يتشبث باثواب الاسلام القديمة، أين حب الذات إذن!! أين النرجسية المفترض أنه يملكها؟!
قد يكون الدين المُختَرَع وسيلة لنيل ما يريد، لكنه لن يمنحه المغفرة حال سقوطه. أدرك الرسي ذلك مبكرا وتوسل التصديق والإيمان بعد أن عجز لوقت طويل عن اخفاء عيوبه ومساوئه.
لن تجد افضل من غطاء قرابة بينك وبين رسول الأمة. الحصانة والرباط الذي قد يكون أقوى من صلة الانتماء لقبيلة أو لأرض أو لحق. كل الحقوق ستتساقط أمام الغطاء الطاهر لمثل هذه القرابة، لابد إذن من التمسك بخرافتها واعادتها على مسامعك قبل الآخرين! ربما كرر الهادي ذلك لنفسه بينما كان يراقب الجموع التي لا يبدو عليها الانصياع التام وتقف بين الشك واليقين!!..
ورغم ما ساقه الرجل من أدلة وبراهين، الا انها لم تكن شفيعة له، ومات محاصرا بين اسوار صعدة وهتافات الثائرين ضده. ترى ما الذي كان يفكر فيه أمام الموت اللاهث نحوه، هل حاول حجب نفسه عنه هو الآخر، أم أنه استسلم سريعا لشريط جرائمه المعروض له؟!
"لعل الزمن والخبرة الطويلة غيرت من طبائع السلالي، وأمسى أشد ثقة بنفسه وحبا لذاته؟!". قد يقول البعض مفندين ما سبق، قبل أن يشير لهم الواقع!!..
ما الذي تغير فعلا؟ أين هو الزعيم السلالي عبد الملك الحوثي؟ ولماذا يحجب نفسه عن مؤيديه؟ إلا من خطابات هزيلة لا تختلف ركاكة عمن سبقه؟!..
وعلى الرغم من تزايد حاله المقت الموجهة للسلالة، مازالت تجد في البحث عن أعياد ومناسبات دينية تذكر الناس بقربى وهمية تغطي بها مساوئها عبر طلاء الشوارع وتزيينها بخرق بالية. فكما كانت خرافتهم طريقهم للسيطرة، كانت كذلك حبل نجاة مذل، قد يقف بينهم وبين انتقام يستحقونه..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني