السائلة تستقبل كل منفلت متروك للمطر. تحول وظيفتها من تصريف مياه الأمطار إلى مهبط من مهابط العائدين من المؤسسة العسكرية للشرعية اليمنية إلى أحضان المليشيات. لا يعني ذلك أنها ابتعدت كثيرًا عما جبلت عليه وعرفت به.. تبقى السائلة سائلة.
على حافة السائلة، يجلس البخيتي محمد في انتظار الضيف الذي فر من جيش طارق صالح، يظهر بمظهر احتفائي يدلي قدميه ظنًا منه أنه يمعن في إغاظة الخصوم، بابتسامة ماكرة ورأس خالطه بياض المسؤولية في خدمة المليشيا، في السائلة يظهر محروسًا ببندقية وحزام الرصاص، يمثل دوره بأكمل وجه، لا أحد يعرف ما إذا كان يخطط لاستقبال أخيه الكبير، علي البخيتي الذي كان حوثيًا أكثر من الحوثي قبل أن يغادر اليمن دون أن يستقبله أحد في السائلة أو خلفها.. إنها لعبة تنقلات موشاة أحيانًا بمظاهر الاحتفاء المغيظ، ظل البخيتي علي يستقبل دبلوماسيين ويزور قيادات، فيما البخيتي محمد يستقبل هاربين ويلعب دور القيادي، كل ذلك حسب مقتضيات ترتيب الأخوة وتوزيع المسؤولية وفق الترتيب، الأخ الكبير له أن يفتهن..
الاستقبال في المربعات المفروشة والمؤثثة بالنمارق والسجاجيد، لا يلفت الانتباه بحكم أنه إجراء روتيني، ما يلفت حقًا هو الاستقبال بالسائلة.
تقدم الإمارات لطارق صالح الدعم الغزير، وزع لأربعين جريحا أربعون سيارة الأسبوع الفائت، ومع الترف المادي الذي يعيشه الرجل إلا أننا نسمع بين الفينة والأخرى من تركه وعاد إلى أحضان الحوثي..
مهما بدت خلافات الشرعية مع طارق صالح، إلا أنه محسوب عليها وعلى التحالف، كطرف جديد يحارب الحوثي..
لماذا يفر هؤلاء من جيش طارق ويحتفي بهم الحوثيون؟
الموضوع يتعلق بالعقيدة القتالية، وكذلك البنية المناطقية لبعض مؤسسات الجيش إبان صالح، إذا اعتبرنا أن الوحدات المشكلة لطارق "ألوية حراس الجمهورية" معظمها محسوب على قوات الحرس الجمهوري التي كان يقودها أحمد نجل الرئيس الراحل..
يمكننا أن نقول أن تلك القوات لم تعد محتفظة بتركيبتها المناطقية بشكل كبير حتى الآن، ومع ذلك يمكن أن نجد في التركيبة الماضية سببا يؤثر على بعض الأفراد، لا يمكن إغفال الجانب النفسي في هكذا حالات: تترك نعيم طارق وتذهب إلى جحيم الحوثي..
قبل 2011 لم يكن الحرس الجمهوري كالفرقة الأولى مدرع، ولم يكن أحمد علي كعلي محسن..
إذ عُرف عن الحرس الجمهوري تقيده بضوابط صارمة لقبول المنتسبين إليه، من الطول والوزن، وشبه اقتصار هذه المؤسسة على صنعاء وضواحيها، ومن ثم تطعيمها ببعض الأعداد من بقية المحافظات كي لا يكتشف الناس تركيبتها.. كان صالح يريد إحكام القبضة على الجيش ليأمن، وكانت هذه سياسته، وفي 2011 كان أبناء الثورة يصفون الحرس الجمهوري بالحرس العائلي..
بالعودة إلى خارطة المعارك التي خاضها الجيش اليمني في مواجهة الإرهاب أو إخماد تمرد أو إطفاء فتنة، لن نجد الحرس الجمهوري في الواجهة، رغم ما كان يروج عن الحزم العسكري وقوة التدريبات وصرامة الانضباط في الحرس الجمهوري، ولوجدنا أن المكونات الأخرى وعلى رأسها الفرقة الأولى مدرع كانت في الواجهة، في صعدة أو غيرها..
يحسب للفريق الركن علي محسن الأحمر، عدم تقيده بسياسة صالح العسكرية، وكان الرجل المؤثر في نظام صالح، يقوم بتصحيح الأغلاط أو العمل كواسطة لإطفاء نار الانتقام في نفس صالح كتعامله ـ مثلًا ـ مع بعض الناصريين الذين قاموا بالانقلاب أو الحركة التصحيحية على الرئيس الراحل، وقام بالتوسط بين المختفين الناصريين وصالح، حتى أن بعضهم، مثل عبده الجندي صار صالحيًا أكثر من صالح نفسه عندما كان الأخير حيًا يرزق.
الدور الذي كان يقوم به محسن، لم يكن باعتباره رجلاً عسكريا على أي حال، وإنما لعبت بعض القيم القبلية دورها في تكوين شخصيته، ليظهر كحلال مشاكل للنظام نفسه، ومما يعرف عن الرجل شهامته وكرمه البالغيين، والتي لم تقتصر على اليمنيين حسب ما تداوله نشطاء قبل فترة لوثيقة من الاستخبارات السعودية لمحسن تتحدث عن كرمه عندما قام مندوبه بتسليم إكرامية لضباط سعوديين، وأشارت الوثيقة أن ذلك ممنوع على ضباطها، من هنا يمكن معرفة بنية المؤسسة العسكرية التي قادها علي محسن واختلافها مع المؤسسة التي قادها أحمد علي على سبيل المثال، أي الفارق بين الفرقة الأولى مدرع والحرس الجمهوري.
في ألوية الفرقة نجد أفرادًا بكثافة عالية من محافظات لا تعد مركزًا لصنعاء، من أبين ولحج والضالع وتعز وإب، بعكس الحرس، وإضافة إلى ذلك شهدت الفرقة عودة ضباط جنوبين كان صالح قد سرحهم من الخدمة عقب حرب 94، هذا التنوع دون التقيد بالتركيز المناطقي ودون وضع اعتبارات للطول والعرض ودون العمل بحزم وصرامة عسكريين، يعود بفائدة على اليمن وإن بنسب متفاوتة بين الفينة والأخرى، في حروب صعدة هؤلاء هم من واجهوا وفي مقدمة الصفوف كان الشهيد القشيبي وثابت جواس وغيرهم، وأثناء ثورة الشباب هؤلاء من سجلوا موقفًا مع الثورة للحد من ضربها عسكريًا، وأثناء الانقلاب الحوثي الأخير، هؤلاء من واجهوا على تخوم صنعاء بقيادة الشهيد صادق مكرم..
هذا كله لا يعني أن ألوية الفرقة تستحق الثقة أكثر من غيرها، وأن نحذر من قوات طارق صالح نتيجة انشقاق مجموعة يتم استقبالها بالتقسيط في السائلة، ولكن لضرورة الانتباه في تركيبة الجيش ودمجه وتنوع أفراده داخل الكتيبة الواحدة، هذا هو الإدماج الذي نبحث عنه والهيكلة التي يحتاجها الجيش..
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس