لم تقف في الخامسة من عمرك تتفحص أفراد مستعمرة النمل الغادية والرائحة لتقارن بين لونها الأسود ولونك، ولم يكن تفاوت حجمك وحجمها الصغير ليثير انتباهك أو سخريتك بتاتاً، لعلك لبثت طويلاً حتى اقتربت منك احداهن وعرضت عليك صداقتها!
لم أفهم في الثانية عشر سبب الهمسات المحذرة لي من صحبة الفتاة المسيحية القريبة من عمري في العمارة المجاورة: "لا بدّ وأن أخلاقهم بسبب لحم الخنزير الذي يتناولونه حتى التصقت رائحته على جلودهم!".
لم يكن التحذير كاف لابتعادي، بل زاد فضولي لمراقبتها والتقاط رائحتها العفنة، دون جدوى!..
في المرحلة الإعدادية أخبرتني إحداهن أن الشيعة يخطون أسماء الصحابة على أرضيات حماماتهم، وحين يأتي الوقت المناسب سيجبرونا على ذلك نحن أيضاً، إن تركونا أحياء. فلابد وأن تُدفع ثمن دماء أريقت منذ أكثر من ألف عام، قالت ذلك بكل حزم!.
حاولت تصديقها، لكني لم أستوعب تشويه أحدهم أرضية منزله من أجل ثأر بذلك القدم، لم يكن من السهل عليّ حينها إدراك معنى توارث الانتقام، حتى اكتشفت أن المنطق والمعقول ليس شرط لوجود المدافعين عن الأفكار الحمقاء..
لن تجد ما يرضيك في كتب التاريخ الخاصة بنا سوى الملاحم والاساطير التي تمجد لمعارك راح ضحيتها الآلاف، وفي نفسك شك إن كانت لعنة قبيلتي "داحس والغبراء" المتسبب الفعلي لها قد انتهت فعليا، أم مازالت "البسوس" كامنة فينا وتنتظر أسباب أشد تفاهة وسخفاً لتنبعث من جديد..؟!
ما أن نفتح أعيننا على الحياة حتى نجد أنفسنا مثقليّن بقيود من المخاوف والتحذيرات، قيود تحذرك، أنت في خطر، محاصر وملاحق من الأعداء، هناك من يسعي لأذيتك، للنيل منك وإسالة دمك، يقصدك على الدوام في تلميحاته واشاراته الخفية، لتبقى في توجس وقلق لا نهاية له..
وعلى النقيض من تلك القيود، ستجد أخرى بمذاق مختلف؛ تستمع إليها في حالة نشوة وهي تبرز نقاط تفوقك على الآخر ، أنت مختلف، لست "نملة" كالآخرين، لا يهم أبدا أن يكون سبب تفردك مهارة قمت بها، أو مجهود بذلته، فلديك ما يغني من جينات كتبت التاريخ يوماً وجعلتك خارج تصنيف البشر..
لدينا كل الأسباب التي تجعلنا نقف في أماكننا دون حراك.. أصنام، تروس صدئة خرجت عن العمل منذ قرون، نتوارثها جيل بعد آخر دون أن نشكو من جور حملها أو من حتمية نتيجتها التي تجعل الآخرين يستهينوا بنا ولا يأخذونا على محمل الجد..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني