للأسف لم تتجاوز زياراتي للقرية أيام لم تتخطى بمجملها الشهر. ورغم ذاكرة السمك التي أملكها مازالت أحداث تلك الأيام راسخة في مخيلتي..
عجلة الطريق الملتوي أمامي كثعبان خرافي يدلني على مخبأ القرية السري، الاسماء القوية لتضاريسها والتي ادركت سريعا أنها لم تطلق اعتباطاً، مياه السيول وهي تنادي بإغراء من بطن الوادي لأكون رفيق رحلتها ومكتشف مصبها الأول، البئر الذي جعلني أشك إن كانت ملامح الوجه المنعكس من قعره لي فعلا، ربما كان أكثر ما فاجأني، المنحدر الذي سكنت القرية اعلاه دون أن تبالي ببقايا العظام البشرية المدوفونة تحتها، رغم أن الزمن لم يبدو حريصاً على سترها وقام بتعريتها منذ وقت طويل، كما سمعت..
حاولت لأيام أن تكون خطواتي أخف وطأة احتراما للراقدين تحت التراب وأنا اتخيل دعساتهم التي سبقتني على هذه الأرض، قبل أن اصاب بعدوى لا مبالاة أهل القرية وتعاملهم البارد، وكأن بناء قرية فوق مقبرة قديمة أمر اعتيادي وقابل الحدوث كل يوم، لكن ذلك لم يمنع حيرتي حين علمت بأن أشباح تلك المقابر لم تكن تزعج مساءات الأهالي، وكأنها هي الأخرى اعتادت عليهم واستأنست وجودهم..
لم أكن تلك الطفلة البريئة دائما، أتذكر قضائي وقت طويل أبحث عن كنوز مطمورة بين التلال، لابد وأن بعض ممتلكات ساكني المقابر أقرب مما يخطر على بال أحد وتنتظر فقط لحظة اكتشافي لها، لكن عجلة أيام الإجازة المتناقصة لم تمهلني، ومازلت حتى اليوم احتفظ بمخططات مغامرتي المؤجلة..
تنقلت بين تلال القرية كمن يسير في عالم مسحور، خيالي، لا شيء فيه يمت بصلة لواقع المدن الاسفلتية الباردة، الروائح العطرية التي تهب من جهة الوادي، طنين النحل المتأهب للدفاع عن مملكته، طعم الخبز الذي لن تتذوق مثيل له في أكثر مطاعم العالم شهرة، لم يصبني فشلي في عقد صداقات مع حيوانات القرية بالخيبة، فمازال في جعبتي الكثير لأقوم به بين ثنايا القرية.
تساءلت، وأنا اجوب طرقاتها العتيقة، عن القصص التي رصفت عليها؟ لابد وأنها كثيرة، فحيثما يضع الانسان رحاله تحط الحكايات، وكان إنصاتي لأهل القرية- الذين لم يتسموا بالبخل- هوايتي المفضلة. شعرت بأحداث بعضها يتنفس جواري، وأسفت لأخرى دفنت وتلاشت بعد أن قرر أصحابها نسيانها. تلمست أثر الحكايات التي كانت القرية فصل من فصولها، وحاولت القبض على تلك التي مازالت تتلصص من بين الشقوق، لكني لم اكتفي، ووجدت في سهرات جدتي المسائية وحكاياتها ما يجدر بنهاية يوم شيق ..
برغم احتفاظي بتفاصيل القرية لكني فقدت غالبية حكاياتها. لا نحتفظ عادة بالقصص المتشابهة، نخفف من ازدحام النهايات التقليدية فينا، ونستبقي الغريب وغير المألوف، وقد كان غالبية ما روي لي في القرية من النوع المتوقع، الذي ينتهي دائما بمصرع الشر على يد الخير، "الشر دائماً ضعيف!"، هذا ما كانت تردده جدتي وما صدقته حينها!..
حكاية واحدة فقط هي ما بقيت عالقة في ذهني، واستمرت في زيارتي بين الحين والآخر، مسترجعة الزمان والمكان الذي قصت عليّ فيه. كان ذلك في مساء ليلتي الأخيرة قبل مغادرة عائلتي القرية..
الكل منشغل بالإعداد للسفر وأنا متشبثة بثوب جدتي أرجوها حكاية أخيرة، لتزفر متأففة قبل أن تبدأ: كان يا ما كان يا سامعين يا كرام، غول متوحش قام باختطاف إحدى فتيات القرية واجبارها على الزواج منه، بعد قطعه عهود ومواثيق بالتوقف عن اكل لحوم البشر. مرت سنوات قبل أن تكتشف الفتاة خداع زوجها الغول واستمراره في التهام أهالي القرية، لكنها وقفت عاجزة أمام ذلك. كانت أضعف من مواجهته، كما أنها للتو أنجبت منه طفل صغير. استبشرت خيراً من هيئته الآدمية وقررت الانتظار حتى يشب ويكون هو منقذها.. كبر الطفل وسمحت له بالخروج للعب مع أول صديق دق على بابهم، ليعود بعد قليل ويداه وفمه ملطخان بالدم، سألته بفزع عن صديقه، ليجيبها: "كان طعمه لذيذا فأكلته، ولم يتبقى منه سوى "الدمدمة والادراس"!..
وجدت زوجة الغول البشرية الجمجمة اللامعة في فناء دارها وقد تناثرت حولها الاسنان، لتدرك تلك البائسة أنها لم تنجب سوى غول جديد لن تسلم القرية من شره هو الآخر : "ما العمل؟!"، سألت زوجة الغول نفسها وهي تبكي وتلطم خدها...
في خضم تلك اللحظة الحاسمة، توقفت جدتي عن الكلام وهتفت لي بنزق أن موعد نومها قد حان، غطت وجهها باللحاف لتؤكد على كلامها، وابقت القصة منذ تلك الليلة بلا نهاية..
تعلق وجهي على زجاج نافذة السيارة حتى بعد أن اختفت القرية وجبالها، وأنا لا أزال أفكر في مصير أم الغول، ما الذي حدث لها؟ هل انتصر الخير على الشر كالعادة، أم أن الغول وابنه كانا أقوى من الفتاة الوحيدة؟! حاولت انعاش ذاكرة والدتي لتذكر نهاية تلك القصة دون جدوى، ازعجت زوارنا من القرية باحثة عن مساعدة لكني فشلت!..
ولم تسمح لي تلك القصة بنسيانها..
يبدو أن الحكايات تغمض عينيها ما أن تجد نهايتها. عدى ذلك تبقى حية متوحشة فينا، فنحن من أضعنا طريقها، لذلك قررت الفرار من "الدمدمة والادراس" وحاولت اقناع نفسي أن حديث جدتي في تلك الليلة لم يكن سوى وهم من صنع خيالي..
لأوقات كثيرة، نجحت تلك الطريقة، لكن الغول وابنه عادا للإلحاح علي وبقوة خلال السنوات الأخيرة. لم يكن أسهل علي من اختلاق نهاية لهما، لكني ببساطة عجزت، وجعلني ذلك العجز اتسائل وأنا اتلفت حولي: هل انتهت تلك القصة فعلا أم أنها استعصت على النهايات لأنها مازلت حية حولنا؟ ربما لم يكن الغول وابنه المتخفي بيننا مجرد خيال، والفتاة المختطفة ليست وهم ومازالت بين جدران سجنها تنتظر من ينقذها.
لن تجد اختلافا كبيرا بين الشخصيات التي تسببت في نشوب الحرب وبين عائلة الغيلان التي تأذت منها القرية: الوعود الكاذبة، والاقنعة المزيفة التي قطعها مشعلي الحرب متطابقة بشكل مذهل مع ما قطعه الغول الكبير من وعود؛ كما أن شهيتهم المفتوحة للدم تقودك لذكرى الغيلان المتخفية تحت جلودنا، والتي انتظرت الفرصة المناسبة لاقتناص المزيد من الجماجم؟!..
اعترف أنها وحوش حاذقة لن تجد اكثر من الحرب غطاء يتيح لها فرصة الحصول على نهاية مناسبة ..
بكل تأكيد لم يكن توقف جدتي تلك الليلة مقصوداً، لكن القصة المبتورة قصدت تحذيرنا من نهاية شريرة قد تلتصق بنا الى الأبد..
لم نكن نتوقع قبل هذه الحرب أن للنهايات السعيدة شروطا غارقة في الصعوبة والمعاناة، لكننا أدركنا وجوب تطبيقها دون تراخي إن أردناها..
هل سننفذ تلك الشروط، أم أننا سنورث أبنائنا نهايات حزينة كنا السبب في صناعتها؟!
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني