ربما كانت حرب الأفيون، التي قامت بين الامبراطورية الصينية وقرينتها البريطانية في العلم 1840م، من أكثر الحروب وقاحة في التاريخ البشري، مع تجرد بريطانيا من واجهتها المتحضرة، وكشفها عن حقيقتها الاستعمارية القبيحة، التي لا تختلف في انتهازيتها عن قراصنة لم يخلو منهم ذلك العصر!!
بدى ذلك جليا، مع إطلاق أسطولها نيرانه على الموانئ الصينية عقاباً لإمبراطورها "شيان لونج" الذي تجرأ على إصدار مرسوم جرّم فيه تجارة الأفيون وتعاطيه، وأمر بإحراق الآلاف من أطنانه علناً، في عمل اعتبرته بريطانيا اعتداء مباشراً وصارخا عليها. فقد كان الأفيون السلعة الوحيدة التي استطاعت من خلاله اختراق الشعب المغلق على نفسه، بعد أن بدأت الفضة، التي لم تكن أسواق الصين تقبل بغيرها في المبادلات التجارية، تنضب من خزائن بريطانيا.
لم يكن شعار "الحفاظ على حرية التجارة"، الذي اُستخدِم أثناء تلك الحرب، مريحا لبريطانيا، ولم يعفها من المسؤولية الأخلاقية والإنسانية لنتائجها؛ لكنه كان مربحاً، خاصة مع بقاء "هونج كونج" من ضمن مستعمراتها حتى العام 1997م..
ربما كان التبرؤ من قباحة أسباب الحروب ومحاولة تجنب الوقوع ضحية لها، أهم ما دعا العالم لسن قوانين ومواثيق دولية، أجبرت الموقعين عليها على احترام كيانات الدول بينها البين، وأخذ مسافات كافية في علاقاتها المشتركة لتجنب الصراعات والحروب. ليتوارى بذلك الأفيون المخجل، أمام بعض من الانسانية في أروقة المنظمات العالمية..
إلا أن الصراعات لم تختفي، ومازالت عجلاتها تسير على ذات الوتيرة، إن لم تتسارع. قد يلقي البعض تهمة النقص؛ أو ازدواجية المعايير، في تلك القوانين، متجاهلين أن "المصلحة" كانت- ولا زالت- المعيار الذي تختار فيه بعض الدول أن تكون مسالمة، أو تتوحش لأجل ما تراه في صالحها، على أن تحتفظ بالحد الأدنى من اخلاقيات ومظهر الدولة أمام العالم.
وليست حرب اليمن استثناء. الحرب التي وقعت نتيجة انقلاب قامت به "عصابة" سيطرت على مقدرات الدولة واسلحتها، وأجبرت دول المنطقة، في تحالف ترأسته كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، على التصدي بكل صرامة لهذا الكيان، الذي لا تعريف دولي له أو اعتراف..!!
لا تكفي النوايا الطيبة، لدخول مغامرة حربية، ما لم تكن لدول التحالف مصلحة عليا منها. وقد كانت مصلحة دول التحالف واضحة، ومتمثلة بنزع ذراع إيران، العدو التقليدي للمنطقة، الذي اقترب بشكل خطير من حدود الخليج وآبار نفطه.
توقع أشهَرَ المحللين السياسيين وأكثرهم حذقاً، أسابيع، أو أشهُر- كحد أقصى- لانتهاء حرب اليمن. إلا أنها خالفت تلك التوقعات، ومازالت مستمرة بكل صلف وعناد!!
ربما كان تعبير "استمرار الحرب"، منافي للواقع؛ فـ"التوقف"، هو التعبير الأدق لما يحدث في الجبهات، والذي يدعونا للتساؤل: عن السبب الحقيقي، والمصلحة التي تصب فيها إطالة مدة هذه الحرب؟! ..
بالطبع، انتهزت عصابة الانقلاب هذه الفرصة الذهبية، واستغلت ذلك "التوقف" في إعادة ترتيب أوضاعها، وترسيخ بقائها، الذي سيضاعف- بالتالي- حجم المكاسب المتوقعة لأي معاهدة سلام ستنهي الحرب. لكن ماذا عن بقية أطراف الصراع؟!
على عكس ما كان يتوقع، أصبحت الشرعية، بعد سنوات الحرب، أضعف من مسائلتها، أو حتى اعتبارها شريك حقيقي للتحالف، نتيجة للعراقيل التي واجهتها منذ قيام الحرب؛ ولسذاجة وحمق اخطاء قامت بارتكابها، أهمها: التسليم المطلق للتحالف وشروطه!!
لكن ماذا عن المملكة؟! الشقيقة التي سيزيد أمد الحرب من استنزافها وتكبيدها الكلفة الأعلى، من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية. أين مصلحتها في ازدياد قوة الانقلاب وضرباته التي اخترقت حدود ما يفترض أنها الدولة الاقوى في المنطقة؟ وكيف ستتعامل مع المجتمع الدولي، الذي يتصيد لها ما قامت بارتكابه في حق المدنيين والابرياء خلال الحرب؟ هل يعلم الأشقاء أن العالم توقف عن ترك الجناة طلقاء، إلا أن يصُبّ ذلك في مصلحته، أو في جيبه؟!..
لا يتبقى لنا في هذه المعادلة سوى الإمارات؛ الدولة التي دخلت التحالف بهدف إزاحة انقلاب الحوثي وعودة الدولة اليمنية، وقدمت لذلك الكثير من التضحيات، حتى اتضح تدريجيا أنها تملك أجندة مختلفة، تستخدم لتحقيقها أساليب بعيدة كل البعد عن كونها "دولة" تحترم المعاهدات والمواثيق وأهداف التحالف المعلنة..!!
على سبيل المثال: لم تضمن المواثيق الدولية، لأي من دول التحالف، إقامة سجون خاصة؛ أو تجاهل عمليات الاغتيال التي تقع ضمن مناطق سيطرتها؛ تهميش الجيش الوطني، ومحاولة أضعافه، باستخدام قوات خاصة ونخب لم ترفع علم الدولة اليمنية مطلقاً، ولم تتورع عن الاصطدام بقوات الجيش الوطني؛ ايقاف تصدير النفط ومنع الحكومة عن أداء وظائفها!!..
كما أن محاولة أضعاف الشرعية، وزعزعة مكانتها، تماهت بشكل مثير للسخرية مع انقلاب "عصابة" صنعاء.. كل ذلك، وإرهاب "الأخوَنَة" يطال كل من ينتقد تلك التجاوزات، أو يحاول التصدي لها!! حتى حُصِرت، بسذاجة، مسألة الدفاع عن الثوابت الوطنية في حزب بعينه..!!
لم تحاول دولة الإمارات اخفاء طموحها في تحول إماراتها الصغيرة من دولة صغيرة إلى امبراطورية، تسعى للسيطرة على ما أمكنها من طرق التجارة العالمية، بكل الطرق المتاحة أمامها. لقد دخلت الحرب لتنتصر. بدى ذلك واضحا من شراهتها المتزايدة في الاستيلاء على سواحل وموانئ المنطقة، والتي لم تستثني منها اليمن، دون أن تراعي إرادة تلك الشعوب ورغبتها؛ أو مشروعية ما تقوم به، لتعاد إلى الأذهان ذكرى حرب الأفيون القديمة.
اتضح لليمني، أن ذلك الطموح سيضاعف، بلا شك، تكلفة الحرب. وقد ينتج عنه حروبا جديدة، بفواتير لن يتحملها سواه!! لتفقد بذلك، الامارات، الثقة التي كانت ممنوحة لها من قبل الشعب، وتُستَبدَل بمشاعر شك وريبة، لا تخلو من عدائية!!..
من حق أي دولة أن يكون لها طموحها، سواء كان اقتصاديا، أم سياسيا، أم حتى جغرافيا؛ إن وضعنا المقاييس الأخلاقية بعيدا عن ذلك الطموح! كما من حق الشعوب، الدفاع عن نفسها بما تراه مناسباً، وحين تمتلك القوة. لكن طموح الدول، يجب أن يبقى محصورا وفق معايير بقائها "دولا"؛ لا أن تعود بالزمن إلى الوراء، وتستدعي قراصنته لتنفيذ مآرب مخالفة لمواثيق العالم، والحد الأدنى من أخلاقيات اُتفق عليها..!!
إما أن تكون دولة، أو عصابة. من غير الممكن جمع النقيضين..!!
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني