لم يتوقع أكبر المتفائلين حكم عادل من قبل مليشيا الانقلاب. فلم يكن اعتقال وتعذيب المعارضين واخراس اصواتهم، يعد بحياة ديمقراطية هانئة على أي حال. لكن عجلة التجريف وتقسيم المجتمع، التي سارت بوتيرة متسارعة مستغلة سنوات الحرب، كانت أسرع بكثير مما كان متوقع لها..
ربما ذلك ليس بالأمر الغريب على الطبيعة البشرية، التي كانت صناعة الاختلافات وخلقها، أكثر ما إجادته عبر العصور. لكن وقوعك تحت سيطرة ميليشيا الحوثي يصدمك بسرعة وضع الختم على كتفك، وقد تم محو إنسانيتك عنك بمنتهى البساطة، دون أن يترك لك حرية اختيارك للفئة التي يميل إليها قلبك أو تمثل حقيقتك.
أنت مع جماعة الحوثي مجبر على ارتداء إحدى قوالبها المعدة سلفا، تشكيلات مستمدة من كتبهم وتاريخهم الذي حكموا به اليمن لسنوات ليست بالقليلة. ومهما حاولت تمييز نفسك عما حولك، لن تخرج عن ثلاثة قوالب لا رابع لها: "زنبيل، مجرد مواطن، أو سلالي منزه!".
أن تكون زنبيلا، يعني أن تكون أهم تلك التشكيلات المجتمعية "عملياً"؛ العامل النشيط؛ الكائن المتشعب الذي لا يتوقف عن الحركة لتسيير الحياة؛ اليد الطولى والعمود الأساسي لبقاء الانقلابيين في مناطق سيطرتهم.
ترى الزنبيل كلما اتجهت ببصرك، فهو العصى المستخدمة لحفظ الأمن والأمان والواشي المعتمد من قبل الجماعة. يستمد قوته من كونه المقاتل المجهول في الجبهات والارخص ثمناً، والقائم بكافة الأعمال الدنيئة، كالسرقة والنهب، وإن لم يكن نصيبه الحقيقي منها سوى الفتات والسمعة السيئة للضباع التي التصقت به.
قد تكون القوالب الاكثر بؤساً، هي ما تمت صناعتها لتوافق "المواطن المجرد"!
أنت مواطن، مجرد مواطن، سواء رفضت الانقلاب، او غضضت بصرك عنه، حاولت الوقوف ضده أو هرشت رأسك وأنت تردد الصرخة. لا مزايا لك أو حقوق سوى أشعة من الشمس، وذرات هواء، لم يكتشف العلماء حتى اليوم طريقة لتعبئتها حتى يتمكن "الانقلابيون" من بيعها.
أن تكون مواطنا في مناطق سيطرة الانقلاب، يعني أنك ضعيف، لدرجة فقدانك الشروط الأساسية للعيش الكريم. لا أدّعي هنا انتفاء حقك في العيش، فما زال الانقلاب بحاجة لك. لا تنتهي الحاجة إلى القطعان ابدا؛ بل أقصد الكريم منه، والذي لا يلزمك- في نظر قادة الانقلاب- من أنت لتحضى به. لا سلالة ترفع من شأنك أو إيمان بها لدعمك. لم تعد تثق في القبيلة للاتكاء عليها، بعد أن فقدت الهيبة والسلطة التي تباهت بها كثيرا، وقد اكتشفت مؤخرا مدى هوان خيط الامل الذي تشبثت به طويلا، بعد أن تخلت الشرعية عن طرفه المقابل، لتسقطه من يدك بيأس، وتجد في البحث عن عمل يقي ابنائك الجوع، ويحميك من ذل السؤال..
أما عن القالب الأخير، المغلق على أصحابه فقد اقتصر على أبناء السلالة المنزهة التي حققت أكثر مما كانت تتجرأ على الحلم أو المجاهرة به، بعد أن عاشت سنوات طويلة تحمل حقد دفين وقناعة بأنها صاحبة حق أصيل، انكرته عليه هذه الأمة حين منعتها عن الإمامة والقيادة، وقد ورثت بجانب جيناتها ذكريات "وهم" اضطهاد مورس في حقها عبر التاريخ، كان لابد وأن يغرس فيها من أجل استمرارية الفكرة وبقائها، وقد اشعرها الانقلاب أخيرا بالإنصاف وعودة الحق لأصحابه.
ربما كانت أفضل المزايا التي حصل عليها السلالي، نتيجة الانقلاب، تمكنه من التنفيس عن نفسه وإخراج ما كان يخفيه ويخشى أو يخجل من قوله سابقاً. لا كبت بعد الانقلاب ولا تقية، ولا حاجة لزيارة الأضرحة أو لأطباء علم النفس!
معنى أن تكون من سلالة الهية تحت حكم الانقلاب، يعني بكل تأكيد أن حقك الرباني في حكم اليمن قد عاد اليك، وسيقودك لتحرير القدس ومن ثم العالم، على الرغم من أن لا بأس من اليمن منفردة، بعد أن بدى تأقلمك وتوددك للعالم. ربما مازال انحنائك لسيدك في صعدة يؤرق نومك ويضغط على فقرات عمودك الفقري؛ لكن الوقت ولابد سيتغير وسيأتي الدور عليك لتمسك بالحكم. فأنت- وكما تقول أسطورة "شجرة العائلة" المعلقة على صدر منزلك-هو الأحق!!
أن تصرخ وأنت تحمل الختم السلالي، يعني امتلاكك لوفرة في كل شيء: القوة، السلطة، الوجاهة والمال. خاصة المال الذي لم يتوقف عن الهطول عليك بعد سنوات من عملية سطوه المنظمة. مال يجعلك تهتف له وهو بين يديك: "ما أظن أن يبيد هذا ابدا. أي حياة منحتها لي الصرخة المباركة؟". لم يتبق لديك سوى القليل لتحصل على الخلود، الأمنية البشرية الأولى والازلية، وإن لم تحققها لك تلك الصرخة، من غيرها يفعل؟!
لا تثير فيك صور قتلاك، المتزايدة على الطرقات والأزقة والمدارس والجامعات وأعمدة الإنارة التي اطفاها انقلابك، سوى سرور داخلي. فقد ازدادت رقعة المظلومية، التي كانت ولازالت أهم وسائلك في كسب التأييد الخارجي. كما أن تلك الزيادة ستصب ولابد في ميزان الثروات التي سيزيد نصابك منها. لذلك لا بأس من زيادة أعداد القتلى واستمرار النواح عليهم.
"ما الذي يمكنه أن يزيل عنك ما تمتلكه من قوة؟"، تتساءل ساخراً. امامك خصوم ضعاف، مشتتة اهدافهم، لا يملكون من أمر أنفسهم شيئاً، تهديداتهم هراء ووعيدهم أجوف إلا من صداه. ربما تراودك بعض الهواجس التي تجعلك تتلفت حولك لتتأكد مما تملك حقاً. فبرغم سطوتك، التي ازدادت على الأراضي المسيطر عليها، إلا أن خارطتها لم تتوقف عن التقلص، وإن ببط سلحفاة. لكنك تنفض تلك الهواجس وتخنقها بيديك، فقد تقلصت سلطة السلالة العديد من المرات عبر التاريخ، قبل أن تعود للتوسع مجددا. بؤرة صغيرة كانت تفي بالغرض دائماً!!
من غير الممكن أن تصدق الادعاءات التي يروج لها المنافقون والحاسدون. أنت محبوب كذلك. كنت ولا زلت وستبقى، ترى ذلك في الجباه المنحية، والابتسامات، والدعوات التي ترافقك اينما ذهبت: "هذا الشعب يحبني. القوالب التي نحتها بيدي راضية ببقائي، محال أن يأتي نهار وتتجراء على نزع نفسها من قوالبها.
كيف لها أن تحيا بلا وجوه، ضباع كانت أم قطعان؟"، دون أن يخطر في ذهنك، أنك حين نزعت عنها إنسانيتها، كتبت على نفسك الطريقة التي ستعاملك بها حين تمتلك القوة. لكن مثل هذا الامر مستبعد، مهما ردده المنطق والتاريخ وقوانين العدالة. فقد نزعت اظافر الجميع، ولم تستثني أحد. كما أن فاقدي الوجوه أعجز من نزع قوة، منحتها السماء وباركتها بتأييدها لك..!
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني