"غطوني وأنا شا دخل له.. غطوني وأنا شا دخل لأبوبكر.."..!!
خرجت العبارات من شفتيه ثائرة، وهو يمسح دمعات متكبرة بالكاد قبلت بالتساقط، فقد كانت هي الأخرى غاضبة، وحين تغضب الدموع تجاهد لتبقى ممسكة بزمام نفسها، فليست كل الأوقات مناسبة للإنهمار..
أتحدث هنا عن دمعات "نبيل العكش"، التي كانت تزوم حول نفسها، وتستجدي من حولها بطانية وتغطية بالسلاح الذي لا يمتلكه، لمسافة مترس مقابل، استشهد فيه صديقه.
ربما سمعتُ مرارا عن مصطلح قهر الرجال، ويبدو أن احساسه لم يصلني، ولم استشعر معناه الحقيقي، حتى شاهدت ذلك المقاتل وهو يضم كفيه ويتلفت حوله باحثا عن طريق يخرجه من سجن جسده، دون أن يُمثِل له صوت الموت والرصاص، الذي يحوم حوله، هاجساً أو خوفا بقدر ما كان عائق ضد هدفه؛ "لو أن جلدي كان مضاد للرصاص" !! هل تمنى ذلك؟!، من يدري!!..
أعدت مشاهدة ذلك الفيديو مرات عديدة، قبل أن اسمع نبأ استشهاده هو الاخر. ومع كل إعادة، أتذكر سؤال حائر ألقاه غسان كنفاني، الرجل الذي نال القهر منه أيضاً، بعد أن أضاع وطنه: "أتعلمين ما هو الوطن يا صفية؟ ليجيب دون أن ينتظر منها اجابة: "الوطن، هو أن لا يحدث كل هذا"!!..
لكن ذلك حدث، ومازال يحدث كل يوم. لكننا، نحن البعيدين عن الجبهات، نحاول قدر استطاعتنا الابتعاد عن ما يقع، لنواصل استنزاف معنى كلمة "الوطن"؛ في كلمات القصائد والاغاني؛ في خطب المسؤولين والقادة السمجة؛ في امتيازات شيوخ القبيلة؛ في العتاب الحائر لأعين الشباب الذين شاخوا مبكرا؛ وفي قيء المنافقين الساعين لأهداف شخصية..!!
استنزفنا الوطن في عملية ما يجب، وما يفترض به أن يكون؛ في التنقيب الجاد عن الأخطاء والنقد؛ وفي الحلول التي لا تُطّبق، وإن طبقت لا تكون على المستوى الذي يناسب طموحنا؛ في أحرف كتاباتنا التي أصابها الملل بعد أن عجزت عن التخلص منا...؛ دون أن نلاحظ أن الوطن كان قد تسرب من بين أيدينا بالفعل في غمرة انشغالنا برسم الصورة التي نريدها له في خيالنا..
لا أعرف حقا ما كان تعريف الوطن لـ"نبيل العكش"، أو لغيره من المقاتلين، الذين يقفون في مختلف الجبهات. لكني أكاد أجزم أنها أفضل بكثير من الأوطان التي تركت لنا ساحات معاركها الوهمية..!! فهي أوطان واضحة محددة، قد تتسع لتشمل الكون، وقد يتقلص معناها في عيني أحدهم لتمسي مجرد بطانية صغيرة يغطى بها جسد صديقه، وطن مناسب لكليهما ..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني