ارتبكت للحظة، بين إجابة رنين هاتفها وبين تجاهله، قبل أن تقرر الرد، وقد بدى أن تلقيها المكالمة أكثر أهمية من خصوصية قد لا تجدها لاحقاً..
لا نحتاج أحيانا للكثير من الذكاء لإكمال الحوارات المنقوصة أمامنا؛ "حوالة مالية" أرسلها مغترب يمني لإعالة بعض الأسر المحتاجة، ومن المؤسف أن تكون عائلتها إحداها. كنت أعرف تلك السيدة منذ سنوات، وأعلم كيف حافظت أسرتها بالكاد على مستوى الطبقة المتوسطة، زمن ما قبل الحرب، قبل أن يتآكل أصحابها باللعنة التي حلت على هذه الأرض.
انتهت المكالمة المنقوصة..
حاولت تجاوزها بالشكوى من صيف صنعاء الذي أصبح لا يطاق في السنوات الأخيرة، قبل أن تقوم السيدة بمقاطعتي واعادتي إلى ما كنت افر منه، يبدو أنها رغبت في مشاركة أحد ما فرحتها!!..
كانت سعيدة. سعيدة لدرجة أنها لم تستطع إخفاء بريق عينيها. ستتمكن من انهاء بقية أيام شهر رمضان دون قلق وعناء. أخذت تسالني بحماس عن أسعار ملابس الأطفال، وعن المحلات ذات البضاعة الجيدة، قبل أن تصمت فجأة وتنطفىء فرحتها، "ما الذي حدث؟!"، سألت نفسي حين اطرقت السيدة لأرضية المكان ساهمة، قبل أن تهمس بانكسار : "لقد أصبحنا نعيش من الصدقات !!"..
ليتها لم تقلها. لو أنها احتفظت بها حتى أغادر. لم أجد طيلة عمري أشد وأقسى من ملامح الخذلان، حين ترتسم على وجه شخص ما. ولم يكن ما رأيته في عيني تلك السيدة انكسارة شخصية، بقدر ما كان وجع شعب باكمله!! أي انكسار أصيب به هذا الشعب، واي هزيمة؟! ..
لعل المعاناة الجسدية ومشاق الحاجة أخف وطأة بكثير من خسائر الروح. نحن أمام شعب غُلبت روحه وتجزأت أشلاء. هل تدركون معنى ذلك؟!..
لم أدرِ أين أذهب بمشاعري، فوجدت نفسي أتجه لا ارادياً نحو البقعة التي استقر عليها بصر السيدة: "ترى أين ذهبت؟، وما الذي تفكر به؟!". شعرت بأن صمتي طال، وكان الوقت الذي يجب عليّ أن أواسيها فيه يمر سريعاً؛ لكن ما الذي يمكن أن أقوله وقد أفرغت عليّ دون أن تدري بعض من انكسارتها؟!..
"نحن شعب قوي، سيمر كل هذا الوقت وتنتهي الحرب سريعاً، ليعود كل شيء أفضل مما كان!"، رفعت السيدة رأسها بلهفة: "حقا، ستنتهي الحرب؟!". اجبتها بحزم: "بكل تأكيد، واقرب مما نتصور!". بالطبع كنت أكذب. لن تنتهي الحرب قريباً. لا شيء يدل على ذلك، ولا نية واضحة لمن يملكون قرار إطفائها؛ لكني شعرت بحاجتها لسماع بعض الكذبات، كما كنت أنا بحاجة لترديدها، فبعض الوهم مريح..
لكن هل ما قلته وهم حقاً؟! ربما لسنا بالشعب القوي، ليس بعد، لكننا على الأقل أقوى من الضعف الذي نبدو عليه. أعتقد بأن شعب آخر لم يكن ليتحمل ما تحملناه، وكان ليفرغه إنهيار سريع وسقوط لا قيام بعده. على عكس التماسك الذي نحتفظ به، وإن بدى هشاً أو منحنياً، لكنه كاف لحفظ وتخزين كافة الضربات التي تلقيناها، ومازالنا ..
ربما ليست الحرب بذلك السوء، فالفضل يعود إليها في إيقاظ ذاكرتنا وتدريبها على عدم النسيان. نحمل المكالمات المنقوصة على قلوبنا بكل حرص، لنسخر منها بعد أن تجف ندوبها علينا، وقد ايقنّا بأن ما يجري علينا "حزمة متكاملة"؛ جرعة يجب أن لا يطالها النقصان حتى تشتد سواعدنا ونتمكن من حماية أنفسنا لاحقاً..
لا تُهزم الشعوب، قد تخسر جولات عديدة، قبل أن تُجبر النصر على الانصياع لها، ولن تجد يمني بعد الحرب بذاكرة ضعيفة. محال أن ينسى الوجوه التي تسببت في إهانته وتركه يتعفن في جروحه، وسيأتي اليوم الذي يمتلك فيه حق المغفرة، ولا أعتقد أنه سيكون ساذج أو أحمق ليعيد تكرار أخطاءه، ويمنح عفوه لمن لا يستحقه..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني