عندما كنا أطفالًا، كنا نلح على آبائنا لشراء الساعات لأنتكة المعاصم والمباهاة بها، لم يكن للوقت أهمية، ولم نخش لدغ عقارب الزمن، نريد إدرار الزنبرك داخل الدائرة المرقمة، يختلف الوقت من معصم لمعصم ذلك أن الساعات كانت زائفة.
كانت الأعياد أنسب المناسبات للحصول على ساعة، عيد مثل الفطر أو الأضحى، وليس أعياد الميلاد، ذلك أننا لا نعرف شيئا عن أعياد الميلاد قبل ولوجنا عالم الفيسبوك، وكانت الساعات التي نحصل عليها بلاستيكية من الحزام وحتى الصحن، وبألوان متوائمة مع ألوان البالونات، ولم تكن للساعات زنبرك ما جعلنا نتفحص عقاربها التي اكتشفنا أنها ميتة..
ـ لم لا تمش الساعات؟ نسأل..
ـ إنها تمشي في الليل، عندنا تنامون. يجيب الكبار.
عندما نذهب للنوم، نحاول خداع الساعات، نغمض ثم نفتش فجأة، نترصدها من خلف السواعد بنظرات مختلسة مفاجئة، يغلبنا النوم، تمشي الأحلام ولا تمشي الساعات.
سرعان ما نرمي بها، لتتكرر الخدعة ذاتها في العيد الجديد، رغم بيعها في دكاكين القرية برخص الرماد، كنا نصدق أنها تمشي عندما ننام..
نجد طريقة ما، لنصل إلى حقيقة أن تلك الساعات لعبة.
في ذلك الوقت، لم تكن هناك ساعة ثمينة إلا واحدة ذائعة الصيت، ساعة رادو، التي مازالت تتربع على عرش الشهرة بلا منافس، كنا أطفالاً عندما ضاعت وذهبت البلاد كلها للبحث عنها.
لا أعرف كيف التقط مؤلفو مسلسل غربة البن، هذه اللقطة: ساعة واحدة لها قيمة. من التفاصيل الذكية في المسلسل، هذا ما كان قبل عقود، وكنا آخر من عايش: شهرة ساعة واحدة تقول الوقت نفسه في الريف.
أضفت الضرورة الدرامية المبالغة على ساعة مسعود، وهذه وظيفة الدراما، فعندما استثقل دينه، وطلب صاحب الدين بماله، مستغلا عدم امتلاك مسعود للمال، صارحه بالخيار السهل: الساعة مقابل الدين، وكان من حوله يؤيدون ذلك، قبل أن يرفع مسعود صوته مدافعًا عن أصالة الساعة المتوارثة أبًا عن جد، إضافة على قيمتها المادية باعتبارها ساعة من ذهب.
رفض مسعود مقايضة الدين بالساعة وفضّل الغربة عن زوجته الحامل..
لم يعد مسعود حتى الآن، بلغ ابنه في منتصف العشرينات ترعرع مع الحنين للوالد الغائب الذي لم يره أبدًا، ونشأ مع أم يستوطنها الانتظار الشغوف الوفي للزوج المغترب.. لو أن مسعود دفع الساعة لما ضاع بالغربة كل هذه السنوات الطوال.
كان الوقت ثمينًا بقيمة الساعة نفسها، كان ذلك قديمًا كما جسده المسلسل..
استحضار الساعة في العمل الدرامي، باعتبار الماضي، قبل عشرات السنوات عندما كانت اليمنيون يعتمدون على الزراعة، لم يجسد هذا الاستحضار الماضي فحسب، بل كان حدسًا للوضع الراهن، لساعة لها قيمة كبرى ظهرت فجأة، هي ساعة ناطق الحوثيين السابق، فليتة.
الساعة التي ظهرت قصتها الآن، تزيد قيمتها على ثمانية مليون، في وقت يموت فيه الناس جوعًا. ساعة تمشي، أنيقة، على معصم يتحرك مستخدمًا لغة الجسد لإقناع المتلقين أن الدم الذي تريقه الجماعة التي يمثلها، دم طبيعي، ربما يكون كذلك للتخلص من سموم العقارب التي حقنت البلاد بزعافها..
لم يكن فليتة يبحث عن ساعة في عيد، لم يحصل على لعبة، قال مبررًا أنه حصل عليها من سفيرة أوروبية بعيد ميلاده، لقد كبرت لعبة الساعات..
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس