سواء كنتَ من مؤيدي فكر "عائض القرني" أو من المخالفين له، سيثير فيك استجوابه، عبر محاكمة التفتيش الفضائية التي نصبت له، الكثير من الشفقة، إن لم تستفزك مشاعر الغضب أو السخرية..
ليس من السهل رؤية رجل يحاول الدفاع عن نفسه، بجمل متعثرة مرتعشة، من اتهامات لم يكن هو صانعها، بقدر ما كان نظام دولته، الذي وضعه حالياً في قفص الاتهام، هو من سعى لترسيخها، وبموافقة من "العالم الحر" الذي استفاد منها حيناً، حتى انتهت فترة احتياجه لها..
ما الذي شعر به "القرني" في طريق عودته من تلك المقابلة؟ ما الذي قاله لنفسه؟! هل كان مقتنعا حقا بما تبرأ منه؟ أم أنه وجد في انحنائه طريقا مناسبة للبقاء حراً طليقاً؟!..
لم يكن عائض القرني الوحيد الذي حوصر باتهامات دعمه للإرهاب، ونشر الفكر المتطرف بين شباب الأمة؛ فقد سبقه الكثير الذين نفوا عنهم تلك التهم مرارا وتكرارا، وبشكل مبالغ فيه، حتى جعلنا نتساءل: إن كان ذلك الإنكار تبرؤ حقيقي لما دعوا إليه سابقا، أم خشية فقدان ثراء لا ينبغي "للمُصلح" من الأساس أن يملكه؟!..
لعل الخوف من مصير مجهول، كمصير "سلمان العودة"، كان الدافع الرئيسي لذلك الانكار؛ فمن السهل تفضيل الانحناء لمؤامرات حكومية، وفضائح كاميرات فضائية، على أثقال القيود..
لست في صدد مناقشة أسباب الفكر المتطرف، الذي لا ينكر أحد وجوده على أرض الواقع.. ولا يهمني حقيقة البحث عن طريقة لإنقاذ معتقل ما، أو آخر اختطفت روحه.. لدينا في اليمن مخزون لا ينضب من المعتقلين والمختطفين، ولا نملك كشعب مقهور رفاهية الاهتمام بالأوضاع السياسية لبلد جار؛ على الرغم أن هذا الجار أمسى وصي علينا بين ليلة وضحاها..
إلا أن الفضول يجبرنا احيانا على الوقوف أمام نموذجين من البشر، وقعا تحت نفس التجربة، واختار كل منهما طريقا مختلفا عن الآخر؛ طريق المهادنة والرضوخ الذي فضله "القرني"، مخالفاً بذلك "العودة" الذي كان السجن أحب له مما يدعونه إليه؟!..
ألا تدعونا هذه المفارقة الى تذكر رجل آخر؛ نبي رفض الحياة الوادعة وفضل السجن عليها، قال تعالى: "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ? وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ"..
حين نعود إلى بدايات قصة سيدنا يوسف مع امرأة العزيز، سنجد أنه كاد أن يقع في الخطيئة "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ"، من المؤكد أن النبي استعصم نفسه، بعد ذلك، وجنب نفسه الوقوع في الخطيئة؛ رغم المغريات التي أحاطت به وهيئت له، ليس من امرأة العزيز وحسب، بل من نساء المدينة اللواتي وجدن به طريدة تستحق مشقة المطاردة، لكن لماذا لم يقع سيدنا يوسف في الخطيئة رغم صعوبة موقفه؟!..
بالطبع، زلة أخرى ستكون جرم متكامل، لا ينقصها جهل أو غفلة، وتستوجب عقاب الهي من الصعب مغفرته. كما أن انكشاف امرأة العزيز، بخطتها الاستباقية الأولى، جعلته يدرك أنه أمام خصم ليس بالبريء- كما كانت تدّعي: "قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"..
ليس من السهل اغفال نقطة جوهرية حاسمة في تسلسل أحداث القصة: كان سيدنا يوسف، عليه السلام، يملك في الحادثة الأولى "الإرادة الحرة الكاملة" في الوقوع بالخطأ أو رفضه.. اتباع هوى النفس، أو طلب التوبة والاعتراف بالذنب؛ لكنه فقد تلك الإرادة بعد ذلك، تحت ظل الاغراءات المجنونة، والتهديدات الصريحة المحيطة به، والتي لم تكن عرضاً، بقدر ما كانت أمرا مباشرا، سالب لحريته، يوجبه الخضوع والتنفيذ: "وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ"..
لم يعد الأمر رغبة، أو نزوة عابرة، بل تحوّلَ إلى طغيان مكتمل، يطلب منه تسليم روحه قبل جسده. لم يجد سيدنا يوسف، أمام عيش ذليل بإرادة وروح منقوصة، سوى امتلاك نفسه بين جدران مظلمة (السجن)؛ لكن ماذا لو أن الضعف أصابه ووافق على ما أريد له؟! لا أعتقد أنه كان ليصبح عزيز مصر يوما ما، ولم نكن لنسمع عن الرجل، الذي بقى مرتجفا أمام نظرات البشر المتهمة الساخرة المشفقة..
قد تكون مقايضة سيدنا يوسف بعيدة في مضمون شخوص القصة؛ لكنها مماثلة في طريقة تعاطي الاغراءات والتهديدات، التي تُعرض على المثقف أو المصلح الاجتماعي، لناشط سياسي مهتم بالشأن العام، أو لآخر يسعى لمجد شخصي..
لكن منذ متى تمكنت السجون من القبض على فكرة ما، وقتلها؟! بغض النظر إن كانت تلك الفكرة صائبة أم خاطئة!! على الرغم من أن الاضطهاد كان على الدوام الطريق الاصعب والاكثر معاناة لصاحبه؛ إلا أنه الأقرب لتحقيق الأفكار وخلقها بروح أقوى..
كثيرون هم الذين وفرت لهم السجون حرية لم يجدوها خارج أسواره، وحققوا من خلالها أحلامهم التي، ربما، لم تكن لتتحقق بالقدر الذي كانوا يصبون إليه تحت زرقة السماء..
قضى نيلسون مانديلا سبعة وعشرون عاما في السجون، بسبب نضاله ضد سياسة الفصل العنصري، ليصبح أيقونة عالمية أخرجته من السجن منتصراً، وجعلته يرأس أول حكومة متعددة وممثلة لكافة الاعراق في بلده (جنوب افريقيا)..
ليس اقسى على المرء من سلب روحه، وتركه طليقاً بين الناس، يعتقد من يراه أنه حر؛ بينما هو مدرك تماما بأنه سمح لسجان، أشد وطأة، أن يحيا تحت جلده ورهن طوعه بقية عمره!!..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني