ضاعت الفرحة برمضان، الفرحة التي كانت تسبق الشهر بأيام، لم أر الناس بمثل هذا الخمول من قبل، هذه السنة أكثر السنوات خفوتًا وأقلها حركة تجاه الموسم الروحاني الجذاب، هذا التضاؤل ليس إلا تأثرًا بالحرب، وهذا التدرج في انخفاض البهجة سينقل رمضان إلى الأيام العادية، إذا لم تر الأجيال كيف كان الأولون يستقبلون الشهر الكريم.
كانت تتزين الأيام الأخيرة من شعبان بإصلاح الفوانيس وامتلاك كشافات الضوء اليدوية، وكنا نحن الصغار نذهب إلى مكبات الأغراض التالفة بحثًا عن كشافات، وكنا نتسابق بإصلاح العصي لنأمن الطريق ونحن نتنقل من قرية إلى أخرى..
وكان مولد الكهرباء يحنحن ملء البلاد قبل رمضان بعشرة أيام على الأقل، قبل أن تصل الكهرباء الحكومية ثم تضيع بعد سنتين فقط بسبب الحرب، لنفقد ضوء الحكومة الوهاج وسط لوامع قذائف المليشيا خاصة والحرب عامة..
رمضان.. انه موسم الانجذاب للضوء، الضوء يملأ القرية، وأضواء خافتة تسري في الطرقات، ورغم الظلام الدامس الذي يتربص بالمارة في الطرقات البعيدة، إلا أننا نعبر بأمان جازمين أن الوحوش والغدارين يفرون من الأصوات التي تصدح بها المآذن عند صلاة التراويح، وأصوات المنشدين، وأصوات الموالعة الذين يتنادون من قرية لأخرى لتحديد مكان السمر، ونعتمد أيضًا على العصي..
كان ذلك قبل أن يحمل الناس البنادق على الأكتاف، ويضيئون عتمة الطرقات بالهواتف الذكية، الهواتف بأيدي الأطفال لا يتعبون في البحث عن الضوء، لا تعرف أرواحهم مشقة مصدره، من لا تعرف روحه معنى الضوء كيف له أن يشعر بالروحانية..
كان الأجداد يرددون "مرحب مرحب يا رمضان" قبل وصوله، وعند وصوله، وأرواحنا تهفو للغروب..
ومع قربه كانت النساء تسرعن بطلي الجدران بالملاط، فتنتعش المنازل بروائح الطين الناعم وتختلط بأعواد الند وأدخنة الحطب..
ومع أن البلاد تقدمت كثيرًا، وصارت إمكانيات البهجة متوفرة بشكل كبير، وانتشر السيراميك المزركش والبلاط شديد الملاسة على قيعان وجدران المنازل القروية، إلا أن الروحانية ضاعت.
اختلال الوجدانات المقبلة نتحملها نحن.. إذا كنا لا نبدي نشوتنا تجاه رمضان ونظهر أهميته ببعض المظاهر البسيطة، من أين ستنتقل روحانية الموسم للأجيال، ومن أين سيرثون أهمية الأيام؟
في القرية كان هناك شخص كبير في السن، كان كلما ذهب للمسجد أو عاد أطلق التراحيب برمضان، وبعد رمضان يظل أشهرًا يودعه، كانت المسافة بعيدة في خلده بين "مرحب مرحب يا رمضان" و "مودع مودع يا رمضان"، كما كانت روحه قريبة من الله، وخطواته قريبة من المنزل، وكان حين يعود من المسجد جلس أمام بيته، أصلح "المداعة" وثبت المذياع على "إذاعة القرآن الكريم"، كان معْلمَاً من معالم المكان والأرواح، كان كذلك إلى قبل أشهر، خفت صوته مؤخرًا. كان في المسجد وحيدًا عندما دخلت إليه، كان يصلي ركعتين تجاه الغرب، وهو الرجل الدقيق المتشدد في تحديد الجهات والذي كان يؤكد من قبل أن المسجد مائل عن الشمال حيث الكعبة قبلة المسلمين وقبلتنا أيضًا، كانت لحظة أليمة.. عرفت سبب ضياع الصوت الروحاني ذاك، لقد تلاشى بصره وأمسى يتحسس الضوء ويتحسس الطريق بعصاه كي لا تزل خطوات العودة إلى البيت..
تبقى الآن قليل من الوشوشات الجذلة تنتظر رمضان، لابد أن نتماهى معها كي تكبر، قبل ضياع الطريق وافتقاد لحظة تأمل الضوء...
نحن الذين عشنا الحرب ومازلنا، وقمنا بثورة ومازالت، حملونا كل شيء، الحرب الكاملة، نصف الثورة، وضياع البهجة في رمضان، وما سنخلفه من تركة من الخيبات، وغلاء الأسعار، علينا أن نصلح ذلك كله..
ولكن، كم باقي لرمضان؟
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس