سوف تظل الحرب في اليمن مستمرة نظريًا، ومعطلة عمليًا؛ وتبعًا لذلك ستظل المعارك مفتوحة شكليًا، ومعلقة واقعيًا؛ حتى تُحسم مسألة تعز، ويتدبر الحلفاء طريقة لإخضاع المدينة، أو احتواء عناصر القلق فيها، بما يسهم في الحفاظ على أدوات نفوذ قوية تعمل لصالحهم في المدينة، وبما يضمن عدم خروجها عن سيطرتهم مستقبلًا.
الفكرة السابقة ليست مجرد استنساخ تحليلي لفرضيات ذهنية قديمة وإعادة تكريرها لتفكيك لغز الحرب المعطلة وأسباب جمودها عند هذه الحالة؛ بل هناك مؤشرات كثيرة ومتجددة وعلى أكثر من صعيد تؤكد صحة تلك الدوافع الثابتة لدى الحلفاء، والموانع التي جعلتهم يقررون ما يشبه "الحجر" العسكري والسياسي على مسألة استكمال تحرير تعز.
سلوك التحالف تجاه تعز
ما يحكم السلوك السياسي للقوى التي تصارع على تعز من داخل التحالف، هو تصورها للوضع الحالي، ومألات ميزان القوة المستقبلي في المدينة. حاليًا، هناك ما يشبه القناعة الراسخة لدى التحالف العربي وحلفاؤه في الداخل، بأن ميزان القوة- وتحديدا على صعيد القوة العسكرية- يميل لصالح طرف معين..
هذا الأمر يشكل مصدر قلق متنامِ للقوى الخارجية، التي لا يهمها مستقبل المدينة واستقرارها، بقدر ما ترغب بضمان سيطرتها المستقبلية على أكبر قدر ممكن من عوامل القوة في المدينة، والحد من نفوذ القوى الداخلية التي ترى فيها خصمًا استراتيجيًا في تعز، وفي كامل البلاد.
رؤية التحالف للجيش في تعز
من علامات الفراغ الاستراتيجي للتحالف العربي وحلفاؤه في الداخل، تجاه تعز، هو أنهم يشتغلون بطريقة فوضوية، تبدو أقرب للمزاج البدائي التدميري، منها للبراجماتية السياسية- التي تعمل في حدود الممكن، وتراعي حسابات الربح والخسارة، والاعتبارات الواقعية المتمثلة في حقائق القوى المتواجدة في المدينة وأوزانها وصعوبة تجاوزها، أو إلغاءها بأي حال من الأحوال.
ولتوضيح الفكرة أكثر، واستعراض نموذج للسلوك العملي، يجدر بنا التوقف عند الحملات الممنهجة لشيطنة الجيش الوطني في تعز من قبل أدوات إعلامية، خارجية تتبع التحالف، وداخلية تعمل في فلكه.
بالطبع، لسنا بحاجة للتذكير أن هذا الجيش، الذي يجري شيطنته اليوم في تعز، هو قوة أسهم التحالف العربي بصورة أساسية في نشأته، وأمده بالكثير من عناصر التشكل والانتظام، سواء على مستوى التسليح والتدريب؛ أم المال والرعاية وكافة عناصر الدعم اللوجستي والمخابراتي، التي يتوفر عليها الجيش في تعز، بصرف النظر عن مستواها.
هكذا تصرف التحالف في البداية، وهكذا تشكل الجيش، وصولًا إلى هذه الصورة. وأما مسألة أوزان القوى السياسية داخل الجيش، فهو مجرد انعكاس لأحجامها الاجتماعية؛ الأمر الذي بدوره انعكس على حجم ومقدار مشاركتها في المقاومة التي تم دمجها لاحقا بالجيش الوطني، لنصل إلى هذا الشكل الحالي.
وبناء على هذا، تقضي الحكمة أن يدفع التحالف باتجاه تحييد الجيش عن أي تصنيفات سياسية، والتعامل معه كجيش يتبع الدولة ككل، وليس تكتلات حزبية يجري التعامل معها بنفس منطق الحساسيات السياسية تجاه هذه القوة أو تلك.
إلا أن ما يحدث، وكما لاحظنا في الفترة الأخيرة، هو أن هناك محاولات واضحة ومكثفة، داخليًا وخارجيًا، لفرز الجيش والتعامل معه من منطلق تفتيتي؛ الأمر الذي يؤكد أننا أمام تفكير كارثي، لا يتورع عن تدمير ما أسهم في إنجازه، فقط لمجرد وجود توجسات سياسية إزاء هذه القوة، وهي قوة في حقيقتها لا تمثل أي خطورة واقعية عليهم، بقدر ما أن هناك مخاوف ذهنية منها تبدو أقرب للوهم منها للحقيقة. وتلك قضية أخرى يطول شرحها في هذا المقام.
نموذج خطير لاستهداف الجيش
في الفترة الأخيرة، جرى ابتكار تنميطات إعلامية وشعبية للجيش تحت مسمى "ميليشيات الإخوان والحشد الشعبي".. هذا الأمر لم يكن مجرد سلوك عشوائي، أو توصيفات فردية تطلق من هنا وهناك؛ بل يبدو اشتغالًا ممنهجًا، توحدت فيه أطراف كثيرة، داخليًا، وعلى صعيد الخارج امتد الأمر ليصل إلى أدوات إعلامية كبيرة تتبع التحالف وتشتغل بذات الطريقة..
قناتي العربية وسكاي نيوز كانتا مثالا في محاولة تشويش صورة الجيش عبر هذه التنميطات الكارثية، التي تستهدف صورته الذهنية في الوعي الجمعي للناس، وبما يمهد لنزع الصفة القانونية عنه، وربما وصولًا لاستهدافه مستقبلًا، تحت الذريعة الجاهزة نفسها، وتسويغ ذلك بالقول أنها مليشيا تتبع قوة سياسية بعينها !!
محاولات لإعادة تعريف المعركة
في البداية، من المهم إعادة التذكير بأن هناك حالة من الإجماع التاريخي يتفق عليه اليمنيون بشأن توصيف هوية المعركة الدائرة في البلد، بكونها معركة وطنية، تتكتل فيها غالبية القوى الاجتماعية والسياسية خلف الشرعية لاستعادة الدولة واستكمال تحرير البلاد من جماعة الحوثي الانقلابية.
بموازاة هذا التصور الجامع للمعركة، تجري محاولات عديدة وتبذل جهود جبارة، من قبل أطراف عدة، لإعادة تعريف المعركة وصناعة هوية أخرى لها. وذلك تمهيدًا لحرف مسارها تدريجيًا، وبما يبرر أي خطوات لاحقة لاستهداف قوى أصيلة في المعركة الوطنية، وعلى وجه الدقة "حزب الإصلاح" والقوة المحسوبة عليه داخل الجيش الوطني.
المحاولات الجارية الآن، تشتغل تحت عناوين متعددة؛ منها ما يحاول تصوير الجيش في تعز بأنه جيش "الإصلاح"، وبأن المعركة هي معركة "الإصلاح" فقط !!
وبقدر ما يبدو الأمر بأنه يصب في صالح "الإصلاح"؛ إلا أن أهدافه الخفية تسعى للقول بأن هذا الحزب- المؤيد للشرعية والتحالف منذ البداية- هو وحده من يجني، وسيجني، مكاسب الحرب. وبالتالي فهي معركته لوحده، وهكذا..
وخطورة هذا الأمر، تتمثل بكونه يهدف لنزع الغطاء الوطني عن الحرب، ويحاول بث شائعة تدفع الناس للتكتل ضد الجيش، وبما يفقد المعركة حاضنتها الشعبية وبعدها الوطني، ويغذي مشاعر عدائية، وصدامات مستقبلية بين المجتمع التعزي، وبين قوة، هي من صميم المجتمع وفي قلب المعركة الوطنية التي يخوضها الشعب لاستعادة دولته.
وفي الخلاصة؛ إذا كان هناك من لا يأبه سوى لمصالحه السياسية والاقتصادية والأمنية الخاصة، دون اعتبار لهذا الوطن من المخاطر التي ستطاله، كنتيجة طبيعية تالية لهذه الحملات التنميطية والتشويهية الخبيثة ضد الجيش الوطني، فإن الوقت ما يزال سانحا، حتى الأن على الأقل، أمام القوى الوطنية الشريفة في الداخل، لتحمل مسئوليتها التاريخية، والعمل سريعا- قبل فوات الأوان- لتجنيب البلاد تلك النتائج الكارثية، التي لن تستثني أحدا.
ذلك أن تفكيك وتدمير نواة الجيش الوطني، باعتباره خط المواجهة الأول، الأن وفي المستقبل، مهما كانت المبررات؛ سيمهد لحرف مسار المعركة الوطنية الكبرى عن أهدافها، وبالتالي عدم مبارحة دائرة الحروب الداخلية، بشكل نهائي ومستدام.
اقراء أيضاً
"غزة" كرافعة أخلاقية للعدالة
في السلم والحرب.. طباع الحوثي واحدة
عن التعبئة الشعبية لمعركة الجمهورية