استقبل الكف التي أوشكت على أبتلاعه بعبارات جوفاء غريبة عنه. من الصعب أن تتلقى العزاء في إبنك، هذا الأمر مخالف لما توقعته طيلة حياتك. الصورة العكسية هي الأقرب للمنطق؛ لكن الحرب يمكنها أن تخلق سياقات غير متوقعة.. تغير الكثير من القناعات والثوابت ..
يتقبل القلب الصفعات مهما كانت قوية. من المؤكد أن ذلك الموظف البسيط توقع خبر استشهاد إبنه في الجبهة منذ التحاقه بها. لابد وأن مثل ذلك الخاطر كان هاجس لا يفارقه، لعله فتح باب العزاء في خياله قبل أن يأتيه الخبر بكثير؛ لكنه لم يعتقد في اسوأ كوابيسه أن يخشى إقامة ذلك العزاء..
يعيد الكذبة الجوفاء على نفسه كل لحظة، فعليه أن لا ينسى اي من تفاصيلها؛ ابنه لم يذهب للجبهة، ولم يلتحق بالجيش الوطني يوماً.. كل ما في الأمر أنه كان في طريق سفر معتاد، قبل أن يهاجمه مسلحون ويقضوا عليه بعد نهبه. وحتى تكون الكذبة مقنعة، ولا تقود لأضحية جديدة، يجب أن يكون القتلة من المرتزقة المنافقين أعداء الله والوطن..
للأسف، هذا ما يحدث لك حين يستشهد إبنك على إحدى جبهات تحرير اليمن، بينما تقطن في مركز تواجدهم وقوتهم..
من الصعب على من تابع احداث تلك الواقعة أن يتقبلها. بعض الكلمات أثقل من الحجارة. مجرد ترديدها يجعلك تشعر بأنك تبتلع اعشاب سامة، فكيف إذا حاولت للحظة أن تتصور نفسك هذا الأب..؟!
لا تبقى القلوب الثمينة لوقت طويل، والفراق نذر، يجب علينا دفعه؛ لكن تلك العائلة وللاسف حرمت من حق الحزن، وهي تتلفت حولها خشية انكشاف امرها. ليس ذلك وحسب، بل حرمت من الفخر الذي يؤنس قلب من فقد شهيد في الحرب: "لم يذهب دم أبني هباء.. لقد ضحى بنفسه وبكل رضى من أجل كرامة هذا الوطن وكرامة أهله"!!..
ما الذي تركه الانقلابيون لنا؟ اعتدنا على جرائمهم وظلمهم، اجبرونا على الصمت المر واختيار الخرس كتكلفة أقل؛ لكن أن يصل بهم الشر إلى حد سرقة احزاننا ومصادرتها؛ اقتطاع الجزء الذي ينبغي علينا أن نبكيه بخشوع لنتمكن من مواصلة ما تبقى لنا من أيام؟!..
أي قبح، وأي جبروت ؟!..
من المستحيل وضع نفسك مكان ذلك الوالد!! هل واجه صورة إبنه، الذي لم يتجرأ أن يطلق عليه لقب شهيد، أم أن ما يشغله هو الانتصار على نفسه واجبارها على مصافحة أكف أدت لاستشهاده؟! ترى ما العبارة التي رددها أمام مشرف الحارة الذي يحوم حول بقية شبابها للزج بهم إلى الجبهات المقابلة؟!..
في يوم ما ستتوقف الحرب، وقد يعتبر ذلك الوالد نهايتها ثمن مناسب لخسارته، على الرغم من غصة عدم حصوله على عدالة تخصه وتنصفه..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني