منذ 2011 والنكت لا تتوقف حول كسل السودانيين.
انتشرت صورة ظريفة لأناس بزيهم الأصيل مسترخون داخل مسجد، كان المعلقون يضحكون أن تلك استراحة للمصلين بين خطبتي الجمعة.
كان التكريس يشق طريقه لأذهان الناس: الكسالى لا يقومون بثورة.
لم يكن تكريسًا ممنهجًا ومخططًا له، غير أن هذا المزاح المتكرر يحدث أثرًا في خارج المحيط السوداني، وقد يفرح الحاكم بتصور الآخرين ويطمئنهم بأن رعيته لن تواتيهم طاقة الخطو ناحية عرشه والاعتراض عليه.
السواعد السمراء ليست كسولة، والعزائم السمراء حين تتحرك بشكل منظم تحدث تغييرًا هائلًا.
الجيل الذي قبلنا، في منطقتنا الريفية يعرفون الأثر الذي تركه المدرسون السودانيون، تفانيهم برقي العملية التعليمية، طيبة قلوبهم، اندماجهم مع الناس، وحزمهم أيضًا.
يتذكر أبي، أحد الأساتذة السودانيين الذي كان اشتراكيًا معتقًا، وكيف وصل إلى المنطقة ينتقد "الترابي" بشكل لاذع، لم يخش على رأيه ولم يقل أنه جديد لا بد من كتم ميوله حتى يستبين توجهات أبناء المنطقة، لقد كان في الصباح حازمًا، وكانت أنشطة المدرسة كلها على عاتقه، من تنظيم الطابور إلى متابعة الغائبين وتأديبهم، كما أنه كان شجاعًا في مواجهة أولياء الأمور الذين يزعلون على أولادهم المدللين فيأتون ليهددوه.. وكان يضيق بخطيب الجمعة الذي يكسر الكلمات فيراجعه من الصف الأول، ليتحول إلى خطيب القرية من باب احترام اللغة والحفاظ عليها.
اتصلت بصاحبي عنتر، لأستفسره عن الأستاذ السوداني الذي اندمج كثيرًا مع ماضغي القات، كان اسمه سليمان، وعمره يقارب من الخمسة والأربعين، كان قد خدم كثيرًا في صبر وتحول إلى مدرستنا، كان يستلم بالدولار ومع ذلك لم يدخر فلسًا واحدًا ولم يتزوج. ذات تخزينة قات عرمرمية، قام الموالعة من أبناء المنطقة للعشاء، فخطرت فكرة كبيرة على بال الأستاذ سليمان، لقد تمنى أن يصنع العلم الحديث "كبسولات" تغني عن الأكل ليتعاطى الكبسولة دون أن "يبذل القات من فمه". لم تأت الفكرة تعبيرًا عن الكسل، وإنما من الإندماج والتأقلم الكبير مع البيئة المحيطة به، ولا شك كان يقوم بواجبه على أكمل وجه ويقتطع من معاشه جوائز للطلاب.
هذه البساطة والطيبة التي نعرف، لماذا لم يستغلها البشير لبناء السودان الكبير، لماذا لم يكن نموذجًا مختلفًا عن الحكام العرب؟ لم يتحول الحاكم العربي إلى مستبد يشوه ملامح البلد الجميل؟
هناك تعاطفًا من بعض اليمنيين على عمر البشير، هذا التعاطف منسلخ من مقارنة بين عدد ضحايا البشير بضحايا صالح، عمر الأعداد لم تكن معيارًا للمفاصلة والمفاضلة بين الطغاة، ضحايا صالح كثر، سلسلة من الأحداث الدامية والاختفاء القسري التي تمتد من السبعينات وحتى ثورة الشباب 2011، حتى ضحايا المشهد الختامي للرجلين، الثورة السودانية الجديدة ضد البشير اتقدت بما يقارب من 60 شهيدًا، بينما قام نظام صالح بقتل أكثر من 1300 من أبناء ثورة 2011، وحين غادر المشهد السياسي تحالف مع الحوثيين ليدخل اليمنيين في مجزرة كبيرة هنا يحصل صالح على المركز الأول..
هناك أشياء أخرى يبدو صالح أفضل من البشير من الناحية الشكلية لجغرافيا البلدين والحفاظ عليهما، استطاع صالح إكمال مشوار إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، أما البشير فقد تحولت السودان إلى سودانيين.. أقول ذلك من الناحية الشكلية فقط.
يقول عنتر: يستاهل البشير.. أنا لم أفهم استبداده وتمسكه بالسلطة.. على الأقل صالح كان يسعى لتوريث ابنه للسلطة، كان الأحرى بالبشير أن يحمد الله بأن جعله عقيمًا.. أن يتنحى ويعيش ملكًا.؟
اقراء أيضاً
شقة "لوكس"
القصة التلفزيونية في اليمن
والذين لا يسألون الناس