انضمت لطاولتنا بعد أن جمعتنا لهجات اليمن تحت سقف مقهى بعيد عن صنعاء. لم أكن قد تشرفت من قبل بمعرفة أحد من سكان الساحل الغربي المشهورين بدماثة اخلاقهم ومودتهم، فشعرت بحدسي الذي "يخيب أحياناً" أنها ستكون بداية معرفة لطيفة.
" ترى ما أحوال اليمن؟!"، تساءلت، لتتغير ملامحها ويُستبدل الارتياح الذي كان بادياً عليها بحزن عميق: "وكيف يكون حالها بعد أن هدم السلفيون أضرحة (التحيتا) بكل جلافة وقسوة"..
للأسف، لا زلنا ندفع ثمن الجهل حتى هذه اللحظة، حين يشمر أحدهم على ساعديه ليضرب به تلك الأحجار؛ لا يحطم مجرد أضرحة وقبور لا تناسب معتقداته، بل يمحو جزء من هويته، تاريخه المتوارث عبر مئات وألاف السنين.
وضعت يدي على كتفها: "لا ينبغي السكوت عن مثل هذه الجرائم، فتدمير الآثار يعني العالم كافة، كأرث انساني يجب الحفاظ عليه وصيانته". راقبت تأثر قسمات وجهها، قبل أن أكمل: "لقد وقعت محافظة الحديدة وسكانها للأسف بين سنديان الانقلاب وأخطاء تحالف الشرعية من جهة، وبين مطرقة حسابات الأمم المتحدة، التي يعلم الله وحده مآل مسارها، وما نسمعه عن معاناتها يفوق القدرة على التحمل. ليكن الله في عون أهلنا فيها".
بدى لي من نظراتها الزائغة ودمعتها المترقرقة أني أخطأت في تذكيرها بتلك المأساة. خاصة مع الهزات المتشنجة لرقبتها والتي بدى أنها تطرد فكرة ما وترفض تصديقها. حلقت العيون المتعاطفة حولها، قبل أن تنتفض فجأة من على مقعدها: "تخيلوا، لم تسلم القباب منهم" !! دهشت لجزعها الذي يندب نفسه أعلى تلة الاحجار الميتة، فأي كانت قيمتها الأثرية، لا يمكن قياسها بمعاناة الإنسان الذي ينزف على أرض اليمن منذ أربع سنوات.
ألجمت لسان الشك الذي انتابني تجاهها، وثبت بصري عليها كمحقق شرطة خبير وأنا أكمل حروفي ببطء مقصود: "ليست القباب وحسب، لقد تم إدانة الميليشيا، بسرقة مخطوطات لكتب تاريخية وعلمية ونفائس نادرة من مكتبة مدينة زبيد"..
هزت رأسها مستنكرة: "ما نفع المخطوطات وقد تم تحطيم الأضرحة على رأس ساكنيها". هتفت إحداهن بسذاجة: "هل يعقل أن تصل المعاناة باليمني ليتخذ من القبور ملجأ له؟ أي حال وصلنا إليه؟!". قاطعتها إشارة نافية: "لا أقصد الاحياء، بل أعني ساكنيها من العارفين بالله".
"لم يعد من هواء نقي !!"، قلت في نفسي وأنا ارفع كفي التي تربت على كتفها، لن اتمادى في تعاطفي لأتجاوز التاريخ المسفوك، أو هدم قبور على أصحابها بغض النظر عن مدى معرفتهم بالله.
تركت هرائها، إلا من لفظ "العارفين بالله"، وأخذت في تفحصه بين يدي. لم أكن بحاجة لقاموس أو حصص إضافية في اللغة العربية لتعريفه. على الرغم من أننا امسينا في ظل زمن علقت معاييره رأساً على عقب كخفافيش، لكني رميت عليها سؤالي: "ومن هم العارفين بالله؟!" ..
لم تفهم مغزى سؤالي، وردت بتفاخر: "أبناء الرسول وعترته، من الملمين بعلوم الحقائق والأسرار، الذين خص الله وجدانهم بنوره، وكشف لهم الحُجب، ليروا ما لا يراه الآخرين" ..
يجعلك لفظ "العارف بالله"، تفكر مليا في من يستحقه: هل من المنصف إطلاقه على من قضى عمره زاهدا متعبدا "لنفسه" في ركن زاوية ظليلة، معتمدا على بيض وسمن المريد الذي أسلم نفسه لتجهيله واغراقه بالتنبؤات المفجعة؟!..
أم أن الأولى به الفلاح اليمني الذي تسربت أيامه وهو يعرف الله عبر شق الأرض واحيائها؛ ابتهالاته التي رافقت حساباته الدقيقة لمواسم الري؛ تقطيعه للجبال بأظافره ليبني الحصون والقلاع التي لا تلبث أن تهدم أو تحتل بيد عارف آخر !!..
هل بالغنا في أوهامنا حين رسمنا صورة لمواطن يعرف الله عبر قوانينه العادلة؛ أخطأنا حين حلمنا بوطن يجمع الناس دون تفرقة بين الاعراق أن وجدت؛ بقوانين يستند عليها الفقير دون خشية جور أصحاب النفوذ؛ مساحة آمنة تقبل المتدين بكل مذاهبه ومعتقداته، وإن خلعها؛ يصافح ابن الجبل فيها من سكن التهائم والوديان بكل حب ومودة وبلا ضغائن ..
برغم صدق تلك الأحلام، إلا أن الواقع واجهنا بوهم سلالة ترى في نفسها أفضلية ممنوحة من السماء؛ ترفع السلاح بكل بشاعة أمام من يقف ضد مصالحها حيناً؛ وتستدير حال انكشافها وانكسارها لتدخل من باب خلفي بابتسامات زلقة وبركات مزيفة عارفة بالله !!..
أعلم بأني سأتهم بالعنصرية والتعدي على المذاهب، وقد تلحق بي تهمة التكفير الرائجة هذه الأيام، لكني لم أعد أبالي. أنا ابنة وطن أنهكته الحرب، جارت عليه حتى لم تترك فيه شبراً الا ونزف ميراث كراهية ثقيلة..
وكل ما أخشاه؛ عجزنا عن نزع أسباب تلك الكراهية، والقاء حمولتها على أجيال قادمة لا ذنب لها سوى سذاجتنا ..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني